ولا يخالجني شك - أنا المؤلف - في أن »الزيني« الذي »ألفت« لم يعد من »تأليفي« وحدي.. وإنما شاركني »الزيني« فيه.. ونازعني.. و»ألف«.. - قبلي - في سيرته. وكثيراً ما رسمت الفعل ل »الزيني« فلم يفعل والقول.. فلم يقل كثيراً ما فاجأني »الزيني« بفعل وقول آخرين وفي الأيام الأخيرة - قبل زواجه من »وجيدة« - أراد أن يكون (وحده) (المؤلف) .. فكان عند انتهاء عمله ب »الزريبة« في المساء.. يعود (وحده) إلي داره. ويدخل (وحده) إلي مرحاضه. وينام (وحده) فوق فراشه.. ويتسلل (وحده) في آخر الليل - إلي دار »العايق« يدق الباب عليه.. فيفزع »العايق« ويصرخ عليه: ما الذي جاء به إليه في تلك الساعة؟ فيغمغم : الجوع الجوع الذي أتي به إليه في تلك الساعة. ويربت »العايق« عليه.. ويسحبه من ذراعه إلي جوف الدار.. وإلي »حلل« اللحم والأرز والخضار. فيغرف منها »الزيني«.. ويأكل.. ويهتز.. حتي يندك. تم يسرع إلي »العايق« في حجرته.. وقبل أن يغسل يديه - : إنه لا يعرف - وقد اقترب موعد زواجه من »وجيدة« - من أين له بمهر »وجيدة« وأجر المأذون؟ فيعيده »العايق« إلي اتفاقه القديم معه.. ولكي يطمئن ينهض إلي دولابه وإلي كيسه (الدمور) الكبيرة الواسعة الملأي بالنقود.. ويعد له منها - في كفيه - مهر »وجيدة« وأجر المأذون ويهجم »الزيني« علي يد »العايق« يقبلها ويلوثها بآثار الطعام. و... ويمضي »الزيني إلي داره وهو يتلمظ.. لكنه يعود إلي دار »العايق« في مساء اليوم الذي يليه.. فالزواج بحاجة إلي سرير خشبي.. وإلي دولاب خشب.. وإلي.. وهو يرجو »العايق« - الأخ الأكبر له - الكريم.. أن يرأف بحاله.. وأن يشتري له - هو - هذه الأشياء ويقسط الأثمان عليه. فيرمقه »العايق« طويلا.. ثم ينهض إلي دولابه وإلي »كيسة« النقود. و... ويمضي »الزيني« إلي داره وهو يتلمظ.. لكنه يعود إلي دار »العايق« في مساء اليوم الذي يليه.. فالدار - داره - بلا لحم أرز ولا زيت ولا ملح ولا كبريت. ويأخذ في البكاء، وينتظر، عليه »العايق« لكي يكف.. لكنه يزيد.. ويهتز.. ويصدر صوتا من أنفه كالأزيز.. فلا يجد »العايق«من مفر إلا الذهاب إلي »كيسة» النقود. و..... وفي الليلة الأخيرة - قبل زواجه من »وجيدة« وقبل ان يخترع له »الزيني« مطلبا - يفاجئه »العايق« بهدية الزواج إليه: الجلباب الذي يزف به والغيارات.. و.. ويهجم »الزيني« علي »العايق« في يديه.. فلا يجد - بعد أن دفعه - إلا رجليه.. فيدفعه »العايق« عنه صارخاً عليه: أن يمضي - بعد أن يتناول طعامه - إلي داره.. وأن يغلق خلفه باب الدار.. لأن »العايق« ينوي أن يأوي إلي فراشه. وما هي إلا لحظات ويتدافع شخير »العايق« خارجا من حجرته.. في موجات. فيتوقف »الزيني« عن التهام الطعام.. وتدور عيناه.. ويسمع صوتا غريبا عليه.. ليس له.. يخرج منه.. سرعان ما ينقلب إلي فحيح. يأمره - الفحيح - ان يمضي - الآن - إلي حجرة »العايق« وأن يفتح - الآن - دولاب »العايق«. ويجده - الفحيح - يغرف له من كيس نقود »العايق«. بل إنه يراه - الفحيح - يدفعه دفعاً ليخرجه من باب دار »العايق«. ويجده - الزيني - في الخلاء. خلاء موحش »بغيض تعوي فيه ذئاب..« ويعصف ريح. فيتنفس عواء الذئاب وعصف الريح. وينتفخ حتي ليوشك أن يطير. ويتطاول - وهو القصير- حتي ليبلغ عنان السماء. لقد استطاع - الزيني - حين أصبح (وحده) (المؤلف) ان يبتز أموال »العايق« وان يتزوج من »وجيدة» بالمجان. ولو أنه انتظر فعل (المؤلف الذي كان ) لظل علي حاله.. مثله.. بلا زواج. ف (المؤلف الذي كان) لا يملك إلا الكلمات.. يصدع بها رأسه عن الشرف والأمانة وفعل الخيرات. و«الزيني» لم تعد تسعفه الكلمات. فليمض »الزيني« إلي حياته »يؤلفها« كيف شاء، وليمض (المؤلف الذي كان) إلي صحرا زهده.. يتبلغ بالكلمات.. ويغط في نومه الذي طال. وجهل - قصير القامة والفهم - أن (المؤلف) (صاح) له.. (محيط) به.. وأن (خيوط) (اللعبة) كلها في يديه.. وأنه حين أرخي (الخيط) له.. كان ليكشف عن وجهه الذي يخفيه. ولقد كشف »الزيني« - بفعله - وعن وجه اللص.. المبتز - الحقير. وعليه -»الزيني« الذي ألفت - أن ينتظر عقاب (المؤلف) (الجبار). و»الزيني« يتمايل فوق جسر المصرف.. يؤرجح »كيسة« ملابس العرس في يديه.. ويتحسس النقود التي سرقها في جيبه. ويحلم.. يحلم بليلة الغد.. ليلة زواجه من »وجيدة«. حلمه الأبيض الذي ارتجاه - وهو الاسود - لألف عام. وإذا كان »العايق« قد رشف من نهر بياض »وجيدة«.. فذلك عهد وانقضي. أما - الآن - ف »وجيدة«له. البيضاء له. وسمعه يصرخ: »وجيدة« لي. البيضاء لي. لكنه رأي »العايق« يشق الظلام إليه. ويجذب منه »وجيدة«. فجذب منه »وجيدة«. فجذب منه »وجيدة«. فجعلته يجذبها بقوة ليسقط في عمق المصرف الذي يلقي فيه بالروث. وصرخ »الزيني« وضرب بذراعيه في الروث.. فأطبق عليه الروث. فانتقض مذعورا يصارع لجة الروث حتي وصل إلي جسر المصرف.. وقبض بيده علي حشيش الجسر.. ونزع بدنه من لجة الروث وصعد به مثل كلب مسلوخ يتقاطر روثا. فأخذ ينفض الروث عن بدنه ويبكي.. ويتداري خلف الأشجار.. يكمن.. وينط.. ويطلع فوق الجسر حتي وصل إلي داره.. وأسرع إلي مرحاضه.. يدلق الماء بالكوز من الصفيحة الممتلئة فوق ملابسه وملابس العرس والنقود. فجعلت الماء يفرغ. فأسرع بالصفيحة يلمؤها من المصرف البعيد. فجعلت الماء يفرغ. وجعلته طيلة الليل يجري ما بين المصرف البعيد والمرحاض.. حتي اندلق باكياً في أرض المرحاض يعصرُ في ملابسه وملابس العرس والنقود. حتي اذا ما طلع الصباح.. طلع إلي سطح الدار ينشر فوقه ملابسه وملابسه العرس والنقود. فجعلت شمس الصباح (لا تطلع) وجعلته - أنا المؤلف - يرتدي ملابس العرس - التي لم تجف - برائحة الروث. وجعلتها - رائحة الروث - (تتمشي) في باحة الدار - ليلة العرس - مثل »شبورة«.. تحيط بالعريس.. الزيني - والعروس - وجيدة - والعايق والمأذون والمدعوين. وجلعتها - رائحة الروث - تتدافع إلي »الزيني« وتتكاثف.. لزجة.. وتتعالي.. حتي لتصبح حائطا من ورث يفصل بينه وبين »وجيدة». وحين استطاع - في حجرة النوم - وبعد لأي - ورغم أنف المؤلف - أن يتسلق - عاريا - حائط الروث إلي البيضاء العارية »وجيدة«.. ويرسل (نفسه) إليها بقوة.. جعلته - أنا المؤلف - يسقط في هوة.. فلقد جعلت »وجيدة« امرأة بلا غشاء البكارة. لكنه واصل العمل وأوحي إليَّ: المرأة ليست غشاء للكبارة. ورأيته - أنا المؤلف - يختطف البيضاء العارية »وجيدة« فوق حصانه الأشهب الذي لكزه فصهل وعلا بها بعيدا عني.. وانطلق بهما إلي أجواز الفضاء ورأيته - أنا المؤلف - من الأرض - يسبح في أعالي السماء.. يشقها بقوة.. والصهيل يتعالي.. حتي وصل بها إلي النجم العالي الوحيد.. فافترش بالبيضاء العارية سحابة بيضاء. وضم البيضاء العارية إليه.. وضمته البيضاء واندفع »الزيني« يشرب من نهر البياض. يعب منه.. يرتوي.. يمتليء. بل إنه ألقي بجسده إلي نهر البياض. يتقلب فيه. يغسل جسده وتحت إبطيه يتطهر من كل (ما فعله) (المؤلف) (الجبار) به. ذلك الذي (ألفه) أسود.. قصير القامة.. ضئيلا. وقتل أباه.. وأخوته.. وجاء به.. دفعا - في رحلته الدامية من الجنوب إلي الشمال. وألقي به »كلاف« في «الزريبة«.. وأسقطه عمدا - في لجة الروث. وتقلب الزيني في نهر البياض يغسل عنه لجة الروث. ويمسح عن روحه ذلك التاريخ الاسود الذي قمعه فيه (المؤلف) (الجبار) فليؤلف - الزيني - الآن - نفسه. وليعد - الزيني - الآن - إلي نفسه.. نفسه كما يتمني فليعده أبيض.. وأعادة.. وطويلا.. وأعاده.. ولعيد أباه المقتول.. وأعاده... وإخوته.. وأعادهم.. وليلتم - الآن - رغم المؤلف - بأبيه واخوته. وليتناول - الآن - رغم المؤلف - العشاء مع أبيه واخوته الآن - الزيني - »يؤلف« نفسه. وتقلب »الزيني« تقلب.. و»وجيدة«- هي الأخري - تقلبت لقد استطاعت أن تنفلت من قبضة (المؤلف) (الجبار) الذي أغرق والديها في النهر. ودفع بها - اليتيمة الوحيدة - للعمل بالوسية وألقي - بها - اليتيمة الوحيدة - في طريق »العايق« ليهدر شرفها.. ويسقط عنها غشاء البكارة. وتقلبت »وجيدة«فوق السحابة البيضاء الآن امتلكت »وجيدة« الحلم فلتعد أبويها الغارقين. وغشاء البكارة.. وضحكاتها التي نسيتها.. وحبها العارم للنجم العالي الوحيد.. وتقلبت »وجيدة« فوق السحابة البيضاء وتقلب »الزيني« الآن.. الزيني.. و »وجيدة« مولودان للتو ولدهما ذلك النجم العالي الوحيد. نزل إليهما ومسد بالضوء فوق الجسدين الوليدين.. ورعاهما حتي كبرا وأصبحا الحبيبين. و... ويفيق »الزيني« علي قبلة من »حبيبته« و»وجيدة« تخبره أن الشمس - التي طلعت - ارسلت بها إليه. فيشب »الزيني« الي الشمس يقبلها ألف قبلة. وينزلق - عاريا - إلي المرحاض يدلق علي بدنه بالكوز الماء من الصفيحة الممتلئة. ويدخل في جلبابه »علي اللحم« والماء يتقاطر منه. ويسرع إلي عمله في (الزريبة).. وقد أحس أنه ليس ب «كلاف« .. وأن البهائم أولاده. ووجده يتقافز في الطريق وسمعه يغني ورآه يخف كأنما يتهيأ لأن يطير. الآن هو يحب العالم والبهائم و »وجيدة« و.. والشهور تتراكض.. وبطن »وجيدة« تكبر.. حتي عاد »الزيني« ذات مساء من عمله بالزريبة إلي داره.. فسمع صرخات »وجيدة«تتدافع خارجة من حجرة النوم.. فلما سأل »العايق« المرتكن علي الحائط - في الباحة - امام حجرة النوم.. أخبره أن »وجيدة« تلد ومعها »القابلة« بالداخل.. فارتكن علي الحائط إلي جوار »العايق« أمام باب النوم. وصرخات »وجيدة« تتعالي.. سكتت صرخات »وجيدة«. وعم صمت.. ثم اشتعلت صرخات طفل وليد فاصطك »الزيني« كأنما الكهرباء مسته. وانفتح باب حجرة النوم عن »القابلة« تحمل بين ذراعيها طفلا ذكرا أبيض.. وتوزع ناظريها ما بين »العايق و الزيني.. لا تعرف من أبوه.. فأسلمته إلي »العايق« الذي حمله بين ذراعيه.. وانكفأ عليه.. يتأمله.. يبحث في ملامحه عنه.. ثم ابتسم للطفل الذكر الأبيض.. فبكي الطفل الذكر الأبيض. فأسرع إليه »الزيني« ليحمله بين ذراعيه.. فوجدني - أنا المؤلف - قائما بينه وبين الطفل الذكر الابيض.. أوحي إليه: الطفل أبيض وأنت الاسود فاحتد يوحي إلي: الطفل أبيض - وأنا الأسود - لأمه البيضاء لا تشكك في نسب الطفل إليّ الطفل طفلي من »وجيدة«. الطفل من حقيقة.. من لحم ودم.. وليس من تأليفك.. فارحل عني أيها المؤلف (الجبار) انفلت عن أرضي كما انفلت عن سمائي.. ودعني.. وإلا.. (ألفت) نفسي.. وكررت عائدا إلي ماضيّ الذي جئت بي منه.. وإلي نجعي.. وأسلمت نفسي إلي أولاد عبدالمجيد ليقتلوني.. كما قتلوا أبي وإخوتي. وتصبح أنت فلا تجد »الزيني« الذي (ألفت) تجدك - وحدك - معلقا في سقف العالم.. فما الذي (تؤلف)؟ فسمعتني أقول للذين (ألفت): لقد انفلتم من قبضة (المؤلف الجبار) بعد أن أصبحتم من حقيقة من لحم ودم فالآن لكم - أيها البشر. حياتكم فلتقرروا - وحدكم - مصائركم ولأعد إلي (المؤلف الشاهد) يروي - عنكم - شهادته