تتمثل مهمة أي حكم في تجميع مصالح كافة الفئات في المجتمع, وفي التعبير عنها في شكل تشريعات( السلطة التشريعية) وفي تنفيذها علي أرض الواقع( السلطة التنفيذية) علي النحو الذي يحقق الرضاء المجتمعي عن أداء النظام بما يضمن استقراره واستمراره, وبما يحقق تقدم المجتمع. وقد أتي مشروع الدستور الجديد(2013) في مواده الانتقالية بمواد قصد بها تحقيق قدر من التمييز الإيجابي لبعض الفئات التي كانت مهمشة في السابق, ويستحيل مشاركتها في البرلمان, بما أسفر عن عجز البرلمانات السابقة عن التعبير عن مصالحها( العمال-الفلاحون-المسيحيون-المرأة-الشباب-ذوو الاحتياجات الخاصة), وترك تحقيق مثل هذا التمييز للقانون الانتخابي الذي من المنتظر أن يصدر عقب الاستفتاء علي الدستور. وقد أتاح مشروع الدستور للمشرع أن يختار في نظام الانتخاب بين النظام الفردي أو القائمة, أو الفردي والقائمة في آن واحد. غير أن كل من تعرضوا لنظام الانتخاب أثناء مناقشة مسودة الدستور وبعد صدور مشروع الدستور( من رجال أحزاب, وإعلاميين, وممن يطلقون علي أنفسهم نشطاء سياسيين!!) اتجهوا إلي تفضيل نظام الانتخاب الفردي والقلة منهم آثرت تفعيل النظام الفردي مع القائمة, انحيازا لمصالحهم الحزبية الضيقة أو الشخصية من جهة, ومتجاهلين عيوب النظامين اللذين يفضلانهما من جهة أخري, والتي قد تسفر عن عودة الحرس القديم( الفلول, والإخوان) إلي الساحة السياسية مرة أخري, بل وإلي الهيمنة علي الحياة السياسية المصرية بكل ما يحمله ذلك من آثار كارثية علي المجتمع والدولة المصرية. إن المتأمل في مسار الحياة الحزبية في مصر, النظم الانتخابية فيها منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي( سواء فردية, أو فردية وقائمة مع دوائر انتخابية) يدرك دونما عناء مدي الآثار السلبية لهذه النظم وتأثيرها علي مجمل الحياة السياسية المصرية. ومن هذه الآثار السلبية نذكر: أولا: إهدار النسبة الغالبة من أصوات الناخبين ذلك أنه لو جمع عدد الأصوات للمرشحين الذين لم يقدر لهم الفوز في الانتخابات فإن جمع عدد الأصوات التي حصلوا عليها قد يفوق حجم الأصوات التي حصل عليها المرشح الفائز بنسبة لا تقل عن ثلاثة أمثال. ثانيا: سيطرة المجتمع التقليدي علي العملية الانتخابية, فالمرشح في الغالب سليل أسرة اعتادت توارث مقعد في البرلمان, ويعتمد بالأساس علي شبكة علاقاته القبلية أو العائلية, رغبة في استمرار تمتعه بالمكانة بين أهله. ثالثا: سيطرة الدين علي العملية الانتخابية, بكل الشعارات التي ترفع( الإسلام هو الحل, نحمل الخير لمصر, رجل البر والتقوي, المرشح المؤمن, التقي, الورع...). رابعا: سيطرة أصحاب المال والأعمال علي العملية الانتخابية, إما بدفع مرشحيهم مباشرة لدخول معترك الحياة البرلمانية, وإما بطريق غير مباشر من خلال تمويل الحملات الانتخابية لمرشحين موالين لهم, مع تعهدات بحماية مصالحهم وتعزيزها. خامسا: غلبة الأمية علي النسبة الغالبة من المرشحين, وهي ليست أمية كتابية فحسب, بل إنها أمية ثقافية في ذات الوقت, وهو ما يجعل هؤلاء عاجزين كلية عن فهم ما يجري تحت قبة البرلمان, ناهيك عن عدم قدرتهم علي صنع القوانين, بل وحتي مجرد مناقشتها. سادسا: إن تعدد الدوائر الانتخابية, ناهيك عن تعدد مراكز الاقتراع, يجعل من الصعوبة- إن لم يكن من المستحيل- إحكام الرقابة علي عملية التصويت وهو الأمر الذي يفتح بابا واسعا للتزوير. سابعا: ضخامة حجم الانفاق الحكومي علي العملية الانتخابية, والذي يقدر بالمليارات لطبع استمارات التصويت علي تنوعها في الدوائر الانتخابية, والإشراف علي العملية الانتخابية, تأمين مقار اللجان الانتخابية, فضلا عن أنه في الغالب ما تكون هناك إعادة في بعض الدوائر الانتخابية, تفرض العودة مرة أخري إلي مزيد من الإنفاق( طبع- رقابة وإشراف- تأمين...إلخ). ثامنا: والأخطر أن الناخب يذهب ليصوت لمرشح, إما بحسب سيرته الذاتية أو بسبب قدرته المالية, أو بسبب مكانته بين أهله والتي قد تمكنه من تقديم خدمات لأهل دائرته( وليس لوطنه), دونما أدني التزام ببرنامج يمكن أن يحاسبه الناخبون عليه. وقد أسفر النظام السابق عن آثار كارثية علي الحياة السياسية المصرية في الماضي نذكر منها: أن النائب أصبح مجرد نائب خدمات يقضي معظم وقته في الذهاب إلي دواوين الوزارات لتحقيق مصالح أبناء دائرته( تعيين بعض الأفراد-بناء مستشفي أو كوبري) دونما أدني رؤية أو اعتبار للمصالح الوطنية. وترتب علي ما سبق خضوع السلطة التشريعية خضوعا كاملا للسلطة التنفيذية التي أصبحت المشرع الوحيد والذي يتعين علي أعضاء البرلمان قبول ما تقدمه وتعرضه من مشروعات قوانين دونما نقاش أو اعتراض, وإلا فلن يتمكن النائب من تقديم خدمات لأبناء دائرته حال غضب الحكومة عليه, وهو ما يعني فشله في أية انتخابات فارقة. كما أن هيمنة حزب واحد علي البرلمان, وبالتبعية علي الحكومة, تعني إمكانية استمرار هذا الحزب في السلطة لأمد طويل طالما بات في مقدوره تقديم الهبات بل والرشاوي والمنح حتي للمستقلين, وغيرهم, للانضمام إلي صفوفه عقب الانتخاب, أو للتصويت لصالح ما يقدمه من مشروعات قوانين. وأسفر النظام السابق عن صعوبة وجود عدد كاف من الخبراء أصحاب الدراية في العملية التشريعية, أو حتي عدد كاف من ممثلي مختلف الفئات الاجتماعية( عمال, فلاحين, مسيحيين, نساء, شباب, ذوي الاحتياجات الخاصة), بشكل جعل البرلمان يمثل نخبة مجتمعية تمتلك الثروة, والمكانة, والمال, وبالتبعية تمتلك السلطة لتوجهها لخدمة مصالحها فقط. بالإضافة إلي انخفاض نسبة المشاركة السياسية في العملية الانتخابية لاضطرار نسبة غير قليلة للسفر إلي دوائرهم الانتخابية للإدلاء بأصواتهم وربما تكون هناك إعادة للانتخاب في هذه الدوائر, بشكل يدفع من سافر مرة إلي عدم السفر مرة أخري. وللحديث بقية.. أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة لمزيد من مقالات د.ابراهيم احمد نصرالدين