أفضت التحولات العالمية منذ تسعينات القرن العشرين إلي إعادة النظر في المفهوم التقليدي لسيادة الدولة والذي يقضي بالحق المطلق للدولة في منع الآخرين من التدخل في شئونها الداخلية, عبر عن ذلك ميثاق الأممالمتحدة في مواده الأولي والثانية والرابعة. فالدولة هي صاحبة الحق المطلق في ممارسة كامل سلطتها علي كل الشئون الواقعة داخل حدودها, هذا الفهم التقليدي للسيادة تعرض لزلزال أتي علي قواعده وأركانه, استجابة لواقع دولي جديد, وانتصارا لحقوق الإنسان, ودفاعا عن الحريات العامة, وتأكيدا لمفهوم مختلف يحيل السيادة للشعوب لا الدول. النظرة الجديدة للسيادة ليست إلا استجابة لواقع معاش يصعب تجاهله أو إنكاره, فثورة المعلومات جعلت العالم أصغر من رأس الدبوس, أزالت الحدود والحواجز الجغرافية, قضت علي عنصر الزمن, وأوجدت مجتمعات افتراضية لها نظم وقوانين خارج نطاق الرقابة أو السيطرة, مما جعل منع التدخل في الشأن الداخلي يخرج من باب المطلق إلي النسبي. سيادة الدولة بالمفهوم النسبي لا يعني ضعف الدولة أو هشاشتها أو فقدان هيبتها, بقدر ما يؤكد تحول مفهوم الدولة ووظائفها لتلائم ظروفا سياسية وتكنولوجية واقتصادية فرضتها العولمة, فالدولة القوية في ظل الواقع الجديد هي تلك التي تؤمن أولا وأخيرا بحقوق الإنسان وحرياته العامة, وهي التي تتشابك في اقتصادها مع الاقتصاد العالمي, وهي التي تدخل في علاقات تفاعل حضاري متواصل أساسه الانفتاح علي الآخر للإضافة إلي تراثه والأخذ منه بمقدار لا يؤثر علي المعتقدات المركزية والهوية الأساسية لشعبها, وبمقدار لا يجعلها تسير في فلك دولة أخري. الدولة وفقا لهذا المنظور تكون قوية وشرعية في حالة واحدة فقط هي ألا يكون وجودها علي حساب حقوق الإنسان بها ورغبة أغلبيته في التغيير, وحقه في التعبير والمحاسبة والمساءلة. شرعية أو عدم شرعية التدخل الخارجي يقاس الآن بمدي مناصرته للحريات العامة والحق في التعبير ودعم مساءلة المواطن للسلطة أيا كان مصدرها, ومحاسبته إياها وتمكينه في مواجهة الظلم الواقع أو المحتمل أن يقع عليه نتيجة التعتيم أو التجهيل أو المصادرة أو الاستبداد. ليس من الحكمة تبرئة التمويل الخارجي من خدمة أهداف السياسة الخارجية لصاحب المال..هذا أمر طبيعي ومفروغ منه, لكن ماذا لو التقت إرادة السياسية الخارجية للدول الأجنبية مع سيادة الشعوب أي حقها في ضمان نظام ديمقراطي, في مقاومة الاستبداد السياسي, في رفض الظلم الاجتماعي والتسلط العسكري, هنا تبدو الإشكالية أكثر تعقيدا حيث تدافع السلطة عن حقها في حماية ذاتها حتي ولو ادعت غير ذلك, حتي لونجحت في تأليب الرأي العام الداخلي ضد المنظمات الحقوقية مستغلة الحساسية المفرطة لدي الرأي العام ضد ما يعرف تاريخيا بالتدخل الاجنبي, لكن التفرقة واجبة بين التدخل الحميد والخبيث. هذه الإشكالية تدفعنا إلي إقرار مجموعة من المسلمات أهمها حق الدولة المصرية في معرفة مصدر التمويل الخارجي لمنظمات حقوق الإنسان وأوجه إنفاق هذا التمويل, وحقها في تجريم الأنشطة السرية أو الأعمال التخريبية أو التحريض علي أعمال العنف والإرهاب بكل صوره, أو تمويل الحملات الانتخابية لما لها من تأثير مباشر علي قرار الناخب, ومن ثم شكل ومضمون الحياة السياسية, والذي يجب أن يترك كحق أصيل للمواطن المصري, وفي المقابل حق المنظمات الحقوقية في تنمية الفضاء السياسي العام, وتنوير الرأي العام بحقوقه, ومساءلة السلطة السياسية وكشف عوراتها, ودفع الجمهور للمطالبة بحقوقه بكل السبل المشروعة في مواجهة إساءة استخدام السلطة, أو الخطأ في إدارة التحول الديمقراطي, فالثورة تكاد تنحرف عن أهدافها, ومن مصلحة السلطة السياسية الراهنة أن تلتحم بالثورة, لا أن تعاديها وأن تنتصر لوجود منظمات حقوقية تباشر دورها في مراقبة السلطة حتي لو استخدمت وسائل من شأنها إثارة الرأي العام ضدها, فمحاولة مبارك كبت الحريات العامة لم يحل دون تفجير بركان الغضب وهدم المعبد علي من فيه, وفي ظل تعاظم سلطة المجلس العسكري التشريعية والتنفيذية تتعاظم المسئولية, وعلي رأسها إتاحة الفرصة كاملة للمنظمات الحقوقية لمباشرة دورها, طالما كان ذلك تحت ضوء الشمس. المزيد من مقالات د.بسيونى حمادة