يبدو أن لا نهاية لسلسة المواقف المحرجة, عميقة النتائج, التي ستواجهها الولاياتالمتحدة, نتيجة للكشف عن فضيحة تجسسها علي حكومات دول, لا تمل من وصفها علي المستوي الرسمي بانها دول حليفة ومقربة, ومنها البرازيل والمكسيك, وهي من الدول التي كشفت تسريبات سنودن أخيرا عن تجسس وكالة الامن القومي الامريكي عليهما. كان آخر تلك المواقف المحرجة, عندما وقفت رئيسة البرازيل ديلما روسيف, في الجلسة الافتتاحية للجمعية العامة للامم المتحدة في نيويورك مؤخرا, تنتقد بشكل لاذع وشديد القسوة ما قامت به حكومة الولاياتالمتحدة من تجسس علي بلادها وعليها شخصيا من خلال شبكة الانترنت, خاصة في حضور الرئيس الأمريكي, الذي ألقي كلمته بعدها مباشرة, ويبدو أن اوباما قد تعمد الإشارة بشكل مقتضب إلي سيل الانتقادات التي وجهته له ولحكومته, الرئيسة البرازيلية, وبدلا من ذلك دافع عن فعالية برنامج التنصت الامريكي, الذي قال إنه كان السبب في جعل العالم أكثر استقرارا مما كان عليه قبل خمسة أعوام. كانت روسيف قد قدمت خطابا مدويا وشديد التأنيب للرئيس الامريكي وحكومته, انتقدت فيه موقف الحكومة الأمريكية ليس فقط من التجسس علي المواطنيين, ولكن أيضا علي مكتب رئيس الجمهورية, مع الإشارة إلي أنه لا يمكن لدولة ان تبني سيادتها علي حساب دولة أخري ذات سيادة مثلها تماما, خاصة إذا كانت تلك الدولة أيضا صديقة كما رفضت روسيف بشكل صريح أن تكون محاربة الارهاب, ذريعة تستخدمها الولاياتالمتحدة لمراقبة العالم, وقد وصفت بعض الصحف الأمريكية اللهجة التي استخدمتها روسيف وهي توجه خطابها في الاممالمتحدة, وكأنها ناظر مدرسة تؤنب طلابها في تجمع صباحي. كانت إدارة أوباما قد حاولت تبرير إجراءاتالتجسس بأن الهدف منها الكشف عن أي عملية إرهابية قبل وقوعها, خاصة في مواجهة إرهاب دولي, إلا أن اهتمام الكونجرس بالكشف عن هذه الإجراءات بعد ضغوط من الرأي العام قد أظهرت أن الرقابة والتنصت علي الاتصالات التليفونية والأجهزة الإلكترونية هي جزء من عملية تجسس أوسع نطاقا, وهو ما كشفت عن وثائق مسربة تفيد بأن هذه الإجراءات تتم في كثير من دول العالم, يتم من خلالها التجسس علي الرؤساء والحكومات والأفراد والمؤسسات, وهي علي ما يبدو تهمة, لم تبذل الولاياتالمتحدة حتي الآن جهدا واضحا لنفض يديها منها, وكأنها لا تجد فيها أمرا يستحق النقاش, فوفقا لرؤيتها, من حقها ان تراقب العالم. كانت صحيفة الجارديان البريطانية قد نشرت قيام الموظف السابق إدوارد سنودن بوكالة السي أي إيه, بتسريب وثائق سرية إلي الصحفي الأمريكي جلين جرنوالد الذي يقيم في ريو دي جنيرو ويراسل صحيفة الجارديان والتي تكشف أن وكالة الأمن القومي قامت بمراقبة هاتف روسيف ورسائل بريدها الإلكتروني التي تتبادلها مع مستشاريها ووزرائها, مما دفع الرئيسة البرازيلية, الي إلغاء زيارتها التي كانت مقررة للولايات المتحدة يوم23 أكتوبر الحالي, ومن المعروف أن هناك العديد من المصالح المشتركة بين الولاياتالمتحدة والبرازيل في عدة مجالات وهي تعتبر أهم شريك للولايات المتحدة في قارة أمريكا الجنوبية. وكانت تقارير قد وردت ونشرتها بعض الصحف الأمريكية ومنها صحيفة كريستيان ساينس مونيتور وصحيفة الجارديان تؤكد تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية علي شركات برازيلية في سياق التجسس الصناعي, أهمها عملية التجسس علي إحدي شركات النفط الحكومية في البرازيل وهي شركة بتروبراس, التي تملك في الواقع اكتشافات نفطية يمكن أن تهز الأسواق العالمية, وهو ما من شأنه بالتأكيد أن يؤثر بشكل واضح علي مصالح النفط الامريكية البرازيلية المشتركة. وكان أيضا من بين تبعات الكشف عن التجسس علي البرازيل, أن تم تعليق المفاوضات مع الولاياتالمتحدة حول صفقة قيمتها أربعة مليارات يورو لشراء طائرات متعددة الأدوار. وكانت روسيف قد أثارت هذا الموضوع مع باراك أوباما في قمة العشرين التي عقدت في بطرسبرج في أوائل سبتمبر الماضي ووعدها أوباما بمتابعة الموضوع وتزويدها بمعلومات حوله وهو ما لم يحدث. ويشير الخبراء إلي أن روسيف قد تستغل تلك القضية خلال حملتها الانتخابية لإعادة إنتخابها لفترة ثانية خلال انتخابات2014 وذلك بعد تراجع شعبيتها من57% إلي30% بعد المظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها البلاد والتي تطالب بتحسين الخدمات العامة ومكافحة الفساد. ومازالت الحقائق تتكشف كل يوم مع تسرب المزيد من وثائق فضائح التجسس الأمريكية علي الرؤساء ومنها وثائق تشير إلي قيام وكالة الأمن القومي بالتجسس علي الرئيس المكسيكي إنريكي بينا نيتو وقت حملته الانتخابية للفوز بالرئاسة وذلك بالتنصت علي مكالماته الهاتفية مع بعض البرلمانيين الذين سيختارهم للبرلمان في حالة فوزه بالرئاسة. وقد طالبت الخارجية المكسيكية بتوضيحات من نظيرتها الأمريكية حول تلك الاتهامات ولكن لم يصلها رد, تماما كما حدث مع الإدارة البرازيلية. وذكرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن عمليات التجسس وصلت إلي حد التجسس علي رؤساء دول في أثناء انعقاد مؤتمرات دولية, وكان قد كشف أخيرا في بريطانيا عن تجسس المخابرات البريطانية والأمريكية علي رؤساء دول في أثناء حضورهم مؤتمرات دولية وذلك بعد تسرب وثيقة سرية كشفت عن خطة لوكالة المخابرات البريطانية للتجسس علي رؤساء دول وحكومات في أثناء حضورهم مؤتمر الكومنولث والذي شاركت فيه الملكة اليزابيث ملكة بريطانيا وعقد في ترينداد بالبحر الكاريبي في عام2009, بالإضافة إلي الكشف عن وضع وكالة المخابرات الأمريكية أجهزة تنصت علي غرف رؤساء آسيويين في أثناء حضورهم مؤتمر اقتصادي لدول آسيا الباسفيك في سبتمبر1993, والذي عقد في مدينة سياتل الأمريكية وحضره خمسة رؤساء دول. كما تم الكشف أيضا عن قيام المخابرات الأمريكية بمراقبة الاتصالات التي كان يجريها ديميتري مديفديف الذي كان رئيسا لروسيا في ذلك الوقت وحاليا رئيس وزراءها. في نفس الوقت بررت مصادر أمريكية هذه التصرفات بأنها كانت السبب في نجاح الأجهزة الأمريكية في إحباط عشرات من المؤامرات الإرهابية ضد الولاياتالمتحدة وضد عشرين دولة أخري في العالم. لقد ازداد نشاط وكالات المخابرات تطورا خلال السنوات الأخيرة خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام2001 في الولاياتالمتحدة, وإن كانت هناك وثائق قديمة سبق أن كشفت عن تسلل أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية بالذات عبر عملاء كثيرين خلال عشرات السنين الماضية خاصة في الدول العربية والتي كانت تعاونهم الموساد الإسرائيلي بعناصر دخلت الدول العربية متخفية تحت ستار عملها في وظائف ومشروعات تخفي حقيقتها, وسوف يظل التجسس مستمرا كجزء أساسي من أدوات الدول الأجنبية التي لها مصالح بالعالم العربي وتستخدم جواسيسها في خدمة هذه المصالح.