مثل السير علي الأشواك وفي حقل من الألغام, تبدو مهمة المحررين العسكريين صعبة, وشائكة للغاية في تغطية أحداث الحروب العسكرية, ونقل أخبارها لحظة بلحظة عبر الصحف ووكالات الأنباء إلي كل شعوب العالم. وعندما يقرر الصحفي والمصور الذهاب إلي ساحة معركة للقيام بتلك المهمة الخطيرة وتلبية نداء المهنة, فإن كلا منهم يضع في حقيبته الأقلام والأوراق والكاميرات وكل الأدوات اللازمة لإنجاز المهمة.. لكنه في نفس الحقيبة الصحفية وفي ذات الوقت يصطحب معه الكفن الذي قد يعود ملفوفا فيه جثة هامدة لا تتحرك, ليدفن في مسقط رأسه إذا كان سعيد الحظ.. أما إذا كان سيئ الحظ فإنه قد يدفن في ساحة المعركة بعد رحيله عن الدنيا برصاصة طائشة, أو شظايا إحدي القنابل أو الصواريخ التي تستخدمها القوات المتصارعة يوميا. وفي الإعلام العسكري المصري والعربي شخصيات حفرت اسمها بحروف من نور, مثل الكاتب الصحفي والمؤرخ العسكري للأهرام محمد عبد المنعم, والكاتب الصحفي والمحلل العسكري عبده مباشر, اللذين التقي بهما ملحق الجمعة وطرح عليهما سؤالا عن أهم الركائز التي استندا عليها في تهيئة الرأي العام لحرب استرداد الكرامة, حرب أكتوبر1973, ودور الأهرام كعنصر من عناصر خطة الخداع الاستراتيجي, باعتبارهما شريكين وشاهدي عيان علي انتصار حرب أكتوبر المجيدة. في البداية كان اللقاء مع الكاتب الصحفي والمؤرخ العسكري محمد عبد المنعم حيث يقول: الموقف قبل حرب أكتوبر1973 كان في غاية الصعوبة والتعقيد.. لماذا؟.. كنت وقتها رئيسا للقسم العسكري بالأهرام, وكانت هناك إرادة شعبية جامعة علي ضرورة أن نخوض الحرب, مهما تكن النتائج, مع ضرورة الانتقام لأنفسنا, وفي نفس الوقت كانت هناك خطة خداع تام لإسرائيل خطة الخداع الإستراتيجي تشيع أن مصر غير قادرة علي الحرب, حتي لا يعلم العدو أننا ننوي الحرب, وهذه الخطة كان يقوم بتنفيذها بداية من رئيس الدولة القائد الأعلي للقوات المسلحة, الرئيس أنور السادات, ونهاية بأصغر مجند من جنود القوات المسلحة. وعن دوره في خطة الخداع يقول محمد عبد المنعم: بالرغم من علمي بقرار الحرب فإنني كنت طرفا في عملية الخداع, و طلب مني أن أقول إن مصر لن تحارب, وذلك من خلال أخبار معينة أبثها عن طريق الأهرام, وهذا ما أكد لي أننا في سبيلنا إلي الحرب لا محالة, وأن الأهرام يسهم في عملية الخداع الاستراتيجي للحرب, وكان الأهرام سباقا, بل هو الوحيد الذي ساهم واؤتمن علي هذه المهمة. ويضيف عبد المنعم: في هذا الصدد كان هناك خبران مهمان جدا, الخبر الأول أن الفريق أول أحمد إسماعيل, وزير الدفاع, سمح للضباط والجنود بأداء فريضة العمرة هذا العام, والخبر الثاني جاء علي لسان الرئيس أنور السادات, أن مصر لن تدخل الحرب إلا إذا امتلكت مقاتلة قاذفة تعادل الفانتومf4, والتصرف الثالث هو تصريح الرئيس السادات بأنه ذاهب إلي التأمل في الصحراء الغربية.. ويؤكد عبدالمنعم أن كل ذلك حدث قبل الحرب بأيام قليلة. ويؤكد محمد عبد المنعم أن الجانب الإسرائيلي في اجتماع له قبل الحرب بثلاثة أيام, وكان يحضر هذا الاجتماع جولدا مائير ومدير المخابرات الحربية ومدير المخابرات العامة الإسرائيلية الموسادوقاموا بتحليل الموقف واقتنعوا بوجهة نظر مدير المخابرات الحربية, بأن مصر غير قادرة علي الحرب في الوقت الراهن, مضيفا أنه في هذا الاجتماع أيضا تلقي مدير الموساد اتصالا هاتفيا من شخص ما, و بعده قال: لابد أن أغادر هذا الاجتماع الآن للسفر إلي لندن اليوم لشيء مهم جدا, وبالفعل غادر إلي لندن في هذا الوقت الحرج, وبعد عودته قال: هناك عميل مهم جدا نثق في كلامه قال: إن الحرب ستقوم خلال ساعات, ويؤكد عبد المنعم أنه يحمل هذا العميل كل نقطة دم أسيلت في هذه الحرب, لأنه كان من الممكن أن نخرج من هذه العملية بطريقة نظيفة تماما لولا هذا الواشي العميل القذر. ويشير عبد المنعم إلي انفراد الأهرام بخبر إسقاط أول طائرة تعمل بدون طيار في منطقة الدلتا أثناء حرب أكتوبر, وكانت هذه الحالة الأولي من نوعها في تاريخ الحروب العسكرية في الشرق الأوسط, ونشرت صورة الطائرة في صدر الصفحة الأولي بصحيفة الأهرام, وعلق علي هذا الخبر مركز الدراسات الإستراتيجية بلندن قائلا: هذا الحدث يسجل للقوات المصرية, وأن قوات الدفاع الجوي من أكفأ القوات الموجودة علي مستوي العالم أجمع. الكاتب الصحفي والمحلل العسكري عبده مباشر يقول: الحرب تعتمد علي القوي الشاملة للدولة السياسية والاقتصادية والبشرية والاجتماعية, وهذا يعني أن البلد بقوته الشاملة يخوض صراعا بالدم والنار من أجل تحقيق الأهداف. ويضيف أن هذا يعني أيضا أن المجتمع بكافة طوائفه يكون شريكا في الحرب, لأن القوات المسلحة جزء أصيل من هذا المجتمع, فلا يخلو بيت في مصر من وجود جندي أو ضابط في القوات المسلحة, وهذا معناه أن الدولة والقوات المسلحة ليستا بمفردهما من ينغمسان في الحرب ولكن المجتمع كله شريك فيها, لأن المقاتل علي الجبهة يكون ابنا أو أخا أو جارا أو صديقا, فجيش مصر ليس مرتزقا والمواطن أيضا من يتحمل كل تكاليف المعركة, وبالتالي كل المواطنين في الدولة أصبحوا طرفا في المعركة إما بالتمويل وإما بالعلاقة. ويؤكد أن كل البيانات العسكرية علي مر التاريخ كاذبة.. لماذا ؟ لأن البيان هو معلومة فهل من الممكن أن أقول معلومة للعدو, وأنا أخوض الصراع وأقدمها هدية للعدو؟ ويستطرد عبده مباشر: الأهرام ساهم في خطة الخداع الاستراتيجي من خلال بعض الأخبار مثل خبر وزير دفاع رومانيا يزور مصر يوم6 أكتوبر, وهذا يعني أن وزير الدفاع المصري سوف يكون في استقباله. ويضيف أنه كان يذهب إلي القيادات الجديدة في الجبهة وقدمهم إلي الناس أو الرأي العام من خلال قصص إنسانية..حيث كان يكتب عن أسرة كل منهم وحياته اليومية, وما هي الآيات القرآنية المعلقة علي حائط مكتبه, وأشياء من هذا القبيل, في محاولة لتقريب هؤلاء القادة إلي جيرانهم لأن معظم القادة يقضون أوقاتهم علي جبهة القتال, ومن ضمن هذه الشخصيات التي تناولها كانت شخصية ابن الفنان سيد بدير, وقد كان طيارا مقاتلا للمرج17, ولم يصدق الناس أن سيد بدير لديه ابن طيار من زوجته الفنانة شريفة, إلا بعد استشهاده في حرب أكتوبر وغناء الفنانة شريفة فاضل لأغنية أم البطل. ويكمل عبده مباشر: من ضمن الشخصيات التي قدمتها للصحافة أحمد نوار الذي كان مجندا علي الجبهة, وكان قناصا ماهرا يرصد أي رأس تتحرك علي الضفة الشرقية للقناة, وكان أحمد من هؤلاء القناصة الذين سببوا الرعب للعدو الإسرائيلي, وكتبت ذلك دون ذكر اسمه حفاظا علي حياته, وخوفا من تعرضه للاغتيال من جانب الأمن الإسرائيلي. ويضيف أنه أثناء دراسته بألمانياالشرقية للصحافة علم بخبر اندلاع حرب يونيو67 من خلال الصحف الألمانية الغربيةببرلين, خلال زيارة للتسوق, وأثناء تجوله داخل هذه السوق استوقفته لافتة تقول ادفع ماركا تقتل عربيا, ويقول: صدمت من هذا الإعلان, وذهبت علي الفور عائدا إلي ألمانياالشرقية, وجمعت زملائي من الطلاب العرب باعتباري رئيس اتحاد الطلاب العرب, وقررنا الذهاب إلي مسئولي الحزب الشيوعي بألمانياالشرقية, وقلت لهم أريد أن أقوم بعمل حملة لجمع الأموال ويكون شعارها ادفع ماركا تنقذ عربيا, وبالفعل تمت الموافقة علي هذه الحملة وتم تكوين لجنة لزيارة الهيئات المتبرعة, وإلقاء الخطب هناك وجمع الأموال, وبالفعل تم جمع الأموال من ألمانياالشرقية, ولكنها كانت ضئيلة, فطلبت منهم الذهاب إلي ألمانياالغربية فقالوا ليس لدينا سلطة هناك, ومع ذلك أرسلوني إلي طالب يساري يقود حركة الطلبة في برلينالغربية اسمه رودي دوتشكا وكان بعد ذلك قائد ثورة الطلبة في عام1968, وبالفعل في آخر الحملة كنت قد جمعت تبرعات تقدر ب2 مليون مارك, وذهبت بعدها إلي سامي شرف وقلت له إن هناك عرضا من الألمان بأن يأخذوا2 مليون مارك في مقابل طائرة محملة بالمعدات الطبية, وكان رده بأن أقبل العرض, وبالفعل عدت إلي مصر بصحبة هذه الشحنة ولدي الرغبة في التطوع بالجيش, ويضيف عبده مباشر أنه كانت لديه رغبة في إبلاغ الرئيس جمال عبد الناصر بأن هناك مواطنا يريد التطوع ووزير الدفاع لا يرغب في تطوعي, وبالفعل علم الرئيس بالموضوع ووافق علي تطوعي, وعملت متطوعا في الشئون المعنوية فكنت أكتب رؤية مشارك بالأحداث وشاهد عيان ولهذا كان حجم الثقة كبيرا بيني وبين القارئ والقادة. ويشير إلي أنه كان يشارك في طوابير السير التي تنظمها الصاعقة المصرية من انشاص إلي بورسعيد سيرا علي الأقدام, مع العلم أن زملائي الصحفيين كانوا يركبون السيارات, وكان ذلك معناه صداقة مع الجنود والقادة, لأنك تسير معهم ومثلهم, وتعرف ما لا يعرفه الصحفيون راكبو السيارات, لأنه ينتظر البيان الصحفي الذي يقال في نهاية اليوم وبعد ذلك تم تنظيم طابور سير آخر كان الجنود والضباط يتنافسون لأكون وسط طابورهم, وكانت أفضل تغطية لطابور الصاعقة.