أعترف أنه بقدر سعادتي بقراءة مقال صديقي الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي في الأهرام بتاريخ2013/9/11, فقد استفزتني الفكرة الأساسية في المقال وما ترتب عليها من نتائج. ويقوم المقال علي فرضية مؤداها أننا نعيش ممزقين بين ثنائيات ضدية متصارعة ومتعادية, وأن الطرف الأول من كل ثنائية يؤدي إلي نقيضه; فالتطرف الديني للسلفية الجامدة, أدي ولا يزال إلي النقيض غير الديني, وهو التنوير والعلمانية, وذلك بالقدر الذي أدي به الإلزام والتقييد المقترن بالتكفير إلي خلق النقيض, وهو التحرر المطلق من الدين أو حتي الالتزامات في مجالات الإبداع وما يتصل به. ولا تختلف عن ذلك الثنائية الضدية الثالثة التي ترد الانفلات من كل تعاليم الدين إلي المبالغة في الحجر علي حرية المسلم التي كفلها له الإسلام, وانبنت عليه الوسطية الأزهرية. والحق أنني أتوجس ريبة من رد التعقد في الظواهر الاجتماعية والثقافية إلي ثنائية بسيطة ساذجة, قد تزيد خلق الفهم وقصوره عن إدراك تعقيد الواقع التاريخي الذي يتأبي علي أي تفسير بسيط, ربما لا يخلو من السذاجة. ولا أدل علي ذلك من تصور التنوير والعلمانية بوصفهما بعض جبهة الكفر التي تأتي بوصفها نقيضا للتشدد والتكفير والجمود البالغ في فهم الدين. ويعرف الدكتور القوصي أن التنوير ليس كفرا ولا حتي العلمانية, وأن التسرع باتهام أحدهما ووضعه في هذا الموضع الشائه الذي يقود إليه القياس الأرسطي هو خطأ لا يقبله عقل مستنير; لأن الكثيرين من المهتمين بتاريخ الفكر العربي الحديث يرجعون بداياته إلي الدور الذي قام به مشايخ الاستنارة. وعندما جاء أفندية النهضة ليكملوا ما طرحه محمد عبده وعلي عبد الرازق في وصل العقلانية الإسلامية بالحياة الحديثة, فتحوا آفاقا جديدة, لم تكن نقضا لمفاهيم مشايخ الاستنارة, وإنما تواصل معها وتطوير وتوسيع لمنطلقاتها; لتشمل ما أسماه الفارابي وأقرانه السياسات المدنية. نعم, إنهم استفادوا من أفكار ومبادئ الاستنارة الغربية في تواصلها الخلاق, ولكن علي أساس من مبدأ التحسين والتقبيح العقليين, وبمعرفة وثيقة بميراث الإسلام العقلاني الذي ناصبته السلفية الجامدة العداء. ولذلك يمكن القول إن طه حسين أخذ مبدأ الشك من الفيلسوف الفرنسي ديكارت. ولكنه كان يعرف أن مبدأ الشك الديكارتي لا يتناقض مع مبدأ الشك الموجود عند المعتزلة, والذي أخذه الجاحظ عن إبراهيم بن سيار النظام. وكان طه حسين فيما فعل يمارس إبداعا واتباعا في آن واحد, فيفيد من تراثه العقلاني الإسلامي, كما فعل أستاذه الإمام محمد عبده, ويفيد من إنجازات الفكر الأوروبي, كما فعل جده رفاعة الطهطاوي الذي كان أول من ترجم عن الفرنسية دستورا مدنيا, في دولة أغلبيتها من المسلمين, ولم يشعر, بل لم يقل له أحد إنه خرج علي تعاليم الإسلام; فقد كان السؤال الأهم: هل يفيد هذا المنقول المسلمين, ويسهم في تحقيق حلمهم في التقدم أم لا؟. وأعتقد أن ما فعله التنويري الجد رفاعة, عندما تحدث عن دستور الدولة المدنية الحديثة, كان هو المقدمة لفكر محمد عبده الذي نفي وجود سلطة دينية, ومن ثم دولة دينية في الإسلام. وكان ذلك في السلسلة التي أدت إلي أن ينقض علي عبد الرازق وهم استعادة الخلافة الإسلامية الذي لا يزال مبدأ مركزيا في فكر الإخوان المسلمين, وما عرف عنهم من عداء لفكرة الوطنية, ابتداء من حسن البنا وانتهاء بمحمد مرسي. والحق أن أحد الإنجازات المهمة لحركة التنوير الإسلامي المعاصر هو نفي إمكان أن يحتكر الإسلام فصيل واحد من فصائله. هكذا وضع الفكر التنويري المعاصر تراث الفلاسفة, والمتكلمين وعلي رأسهم المعتزلة, والصوفية, ورجال العلم الإسلامي, ومن أطلقوا علي أنفسهم أهل السنة والجماعة, في مواضع متساوية متكافئة. ولذلك لم يقبلوا أن يكون الإسلام احتكارا لجماعة بعينها; أو مقصورا علي فئة دون أخري. والحق أنه عندما يتجاهل الدكتور القوصي هذه الأبعاد من إنجاز التنوير العربي المعاصر فإنه يضع نفسه- دون أن يدري- في صفوف سلفية تقوم علي مفهوم الفرقة الناجية التي تستبعد من وجهة نظرها- من يخالفها من الإسلام. وهذا ما فعله هو, عندما دفعه القياس الأرسطي الشكلي إلي إقامة تضاد متوهم بين أفكاره, وهو عالم أزهري مستنير, وأفكار التنوير العربي المعاصر. أما العلمانية المجني عليها, فقد نسي- وهو الدارس للغة العرب وتراثهم الديني والفكري القائم علي التنوع- أن صفة الكفر الملاصقة لها صفة اتباع وتقليد, وليست صفة تأمل عقلي أصيل. أما عن الدعوي الشائهة الصراح إلي تلك العلمانية التي تفصل الدين عن الحياة في شتي صورها فهذه أعجوبة لم أسمع عنها من قبل, ولم أسمع عن علمانية أو أي مذهب فكري يحترم العقل الذي يفعل ذلك. أعرف الفصل بين الدين والدولة, أو الفصل بين الدين والسياسة, ولكني لم أعرف إلي اليوم من يدعو إلي فصل الدين عن الحياة, حتي في بلاد الذين لا يؤمنون بالديانات السماوية في الصين واليابان وأمثالهما;. أما العلمانية فهي تعني بفتح العين الدنيوية. وتعني النزعة العلمية بكسر العين, ولا علاقة لها بالكفر إلا عند ذوي العقول الجامدة. وخلاصة أن ما نعانيه في مصر, اليوم, هو صراع بين طوائف سلفية, تزعم كل واحدة منها أنها الفرقة الناجية وما عداها فرقة ضالة مضلة, وذلك مقابل مجموعات من المسلمين لا يزالون علي وسطيتهم وتسامحهم وإيمانهم بأن من كفر مسلما فقد باء بها, ولا ينفصل هذا الإيمان عن الاقتناع بضرورة الدولة المدنية الحديثة, من حيث هي دولة مواطنة, تقوم علي الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية, والكرامة الإنسانية, والاستقلال. والمفارقة المبكية المضحكة في آن واحد, أن جماعات التشدد ومنها جماعة الإخوان تمثل الأقلية القليلة, لكنها بتنظيماتها واتصالاتها الخارجية المشبوهة نجحت في الاستقواء- بشتي الصور- علي الأغلبية, ولا تزال تستبدل الإرهاب والقمع بالمجادلة بالتي هي أحسن, طامعة في الحكم حتي بعد سقوط مرسي, وذلك بسبب تطاول عصور التسلط والفساد, والتدخل الأجنبي الاستعماري وبعض توابعه العربية النفطية, فضلا عن وجود أكثر من أربعين في المائة من المواطنين الغارقين في الأمية والجهالة والفقر, وقصور الخطاب الديني الوسطي في استمالة الجماهير, وكلها عوامل جعلتنا نعيش هذه المأساة المستمرة التي لا يمكن فهمها من خلال ثنائيات ضدية شكلية وساذجة. لمزيد من مقالات جابر عصفور