وصلني بالأمس عدد من الموسوعات الصادرة ضمن سلسلة الموسوعات الإسلامية المتخصصة التي يصدرها المجلس الأعلي للشئون الإسلامية تحت اشراف الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق الذي أكبر علمه وأعتز بصداقته وكالعادة جلست أتصفح المجلدات التي وصلتني, بادئا بموسوعة التصوف الإسلامي ومنها عرفت أن الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي نائب رئيس جامعة الأزهر. وقضيت وقتا طويلا من الليل فرحا بهدية العالم محمود زقزوق الذي شاركه هؤلاء العلماء في إنجاز هذه المجلدات التي لابد أن يزهو كل مشارك فيها بما أسهم به في خدمة العلوم الاسلامية ولذلك فشكري للدكتور زقزوق موصول بعرفاني بفضل العلماء الأجلاء من هيئة تحرير الموسوعة والمسهمين بالكتابة فيها وكانت صدفة طيبة أن أطالع مقال الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي في عدد الأهرام الصادر في اليوم التالي(2010/8/23) بعنوان إشراق أم تنوير.. مرة أخري فبدأت بقراءته, وفرغت من قراءتي, وأنا أسأل نفسي: تري هل كان هذا الزميل الكريم سيقوم بتعديل ماكتب لو قرأ مقالي نور علي نور الموجود في الصحيفة نفسها بعد مقاله بصفحتين. والحق أنني شعرت بالسعادة بعد قراءة مقاله, فقد دفعه مقالي, علي الأقل الي توضيح ما قصد إليه بالإشراق في مقاله الأول فأفادني وأفاد القراء. فهاهو يقول إن مقصده هو الإشراق بمعناه المنهجي الذي يعرفه دارسو الفكر الإسلامي وكما يتمثل لدي رجالاته وهو مفهوم خصب يجمع بين جوانب أربعة يضمها المسلم في إهابه وهي:1 العقل2 والشرع3 والقلب4 والإرادة. ويقصد سيادته إلي العقل الصحيح الرشيد الذي يصل به المسلم الي المعرفة بالله تعالي وصفاته وأفعاله ثم الي المعرفة بما يصلح حياته في الدنيا ويقيم العدل في جنباتها ويدفعها إلي التقدم والتطور. أما الشرع فهو مايستمد منه المسلم المعرفة بمنهج حياته وسلوكه ومعاملاته القائمة علي العدل والإنصاف والحق والخير لنفسه ومجتمعه والبشرية بأسرها. أما القلب فيفتح النوافذ الإنسانية علي نسائم الوجدان والمحبة والرحمة السارية في الكون كله. أما الإرادة فبها يتسلح المسلم بصلابة العزيمة دفاعا عن الحق ورفضا للجور, وتطلعا الي مستقبل أفضل. والحق أني أقبل هذه المبادئ الأربعة, وأراها مبادئ صالحة لتعريف مفهوم التنوير الذي لاأزال اتمسك به, فأنا لا أذهب إلي شيء سوي أن مفهوم التنوير يقوم علي العقلانية التي لايمكن أن تتضاد والشرع. وهو مفهوم يلزم عنه تأكيد حرية الإرادة الإنسانية التي نص عليها المعتزلة, وتمسك بها الإمام محمد عبده وأشكر الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي لأنه أضاف القلب, وهي إضافة من نفحات تأثره بالصوفية في ظني وأعتقد أن المبادئ الأربعة التي بني عليها الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي تصوره لما أسماه الإشراق بمعناه المنهجي لاتختلف كثيرا, بل تتكامل مع أصول الإسلام الخمسة التي حددها الإمام محمد عبده كي تشمل:1 النظر العقلي لتحصيل الإيمان2 تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض3 البعد عن التكفير4 الاعتبار بسنن الله في الخلق5 قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها. وقد سبق أن كتبت عن أفكار الإمام محمد عبده في توضيحي لمفاهيم الدولة المدنية عند مشايخ الاستنارة( رفاعة الطهطاوي, محمد عبده, علي عبد الرازق, عبد الرحمن الكواكبي) في كتابي هوامش علي دفتر التنوير الذي صدر سنة1994 في القاهرة وبيروت. ولاأزال أري في مبادئ الإمام محمد عبده نقطة انطلاق معاصرة في تأصيل فكر اسلامي معاصر للتنوير. ولذلك لا اعتراض لي علي مبادئ الدكتور القوصي إلا من حيث التسمية, فما يسميه مفهوم الإشراق بمعناه المنهجي ليس هو ما استقر عليه دارسو الفكر الإسلامي, فلايزال مصطلح الإشراق يراوح, اصطلاحا, مابين التصوف الإسلامي والنزعات الأفلاطونية المحدثة مضافا اليها الغنوصية. وسؤالي الذي ألقيه عليه وعلي نفسي: ولماذا لجأ الي مصطلح الإشراق فيما هو مرتبط باصطلاح التنوير الإسلامي عند محمد عمارة مثلا, وعندنا نحن الذين نري في فكرنا امتدادا للاعتزال القديم وتحديثا له؟ من حق الدكتور القوصي أن يكون مايسميه الإشراق المنهجي نهجا خاصا به في الفكر, ودعوة يدعو إليها. وعندئذ يصبح ماقدمه من شرح لهذا الإشراق المنهجي اجتهادا من حقنا والآخرين قبوله أو تعديله أو حتي نقضه لكن ترك الاصطلاح مبهما دون تعريف في مقاله الأول, وبوصفه نقيضا للتنوير يحمل شيئا غير قليل من الالتباس في الفهم ووقوعي شخصيا في هذا اللبس دلالة علي ذلك, وأذكر أن بعض أساتذة الفلسفة من مثل عبد الغفار مكاوي التبس عليه الأمر, بل إنه هو الذي نبهني لمقالة الدكتور القوصي. ولا أعرف من أين يأتي الجزم بأن مفهوم التنوير عند سدنته( ولست منهم علي كل حال, فأنا مجتهد, أصيب وأخطئ مثل الدكتور القوصي) يقتصر علي العقلانية والتفكير العلمي من ناحية والدولة المدنية الحديثة من ناحية أخري؟ أو أن هذا الاقتصار يستبعد الشريعة؟ وأين الوجدان والإرادة؟ وألا يعد هذا إقصاء لبعض المكونات الإسلامية؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة كلها مضمنة فيما كتبت عن التنوير, وهو كثير, ومع ذلك فلست سادنا, وإنما مجتهد يري أن إلحاح المفكر المسلم علي العقل هو ضرورة لمواجهة الذين يلغون العقل في أصولية التمسك بالنصوص حتي غير المقدسة, فأوصلونا إلي حديث الذبابة وشرب البول والثعبان الأقرع وما أشبه, وهذا الإلحاح علي العقل هو إلحاح علي أهم مبدأ في دين يصفه العقاد بقوله: التفكير فريضة إسلامية, وفي دين لن نجد في نصه الكريم تأكيدا أكثر من التأكيد علي مفردات إعمال العقل من تدبر وتأمل وتمعن, وتبصر, وتعقل, فضلا عن أن الإلحاح علي العقل يتضمن مايلزم عنه, كلاميا: العدل والتوحيد, والأول يفضي عندي إلي الدولة المدنية الحديثة المحققة للعدل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي, والثاني إلي التنزيه الكامل بلغة المعتزلة. أما عن كون التنوير مصطلحا إسلاميا موجودا في تراثنا العربي الإسلامي, فهو مبسوط ومشروح بالنصوص الإسلامية التراثية في مقالي نور علي نور الموجود في العدد نفسه الذي نشر فيه الدكتور القوصي تعقيبه. ولست أدري ما الذي يدفع هذا العالم الجليل إلي تصديق هذه الإشاعة السخيفة التي تقول إن التنويريين يقدسون العقل إلي درجة إلغاء النص بما يتضمن إقصاء الأوامر والنواهي التي جاء بها الشرع؟! أنا أدعو الدكتور القوصي إلي أن يقرأ, علي سبيل المثال, كتبي إذا اتسع وقته, ويأتي لي بجملة واحدة تؤكد هذا الزعم السخيف. ولمن يمكن أن يتجه هذا السؤال الذي لا أعرف كيف أصفه: هل قال ابن رشد أو محمد عبده أو المعتزلة بإنكار الشرع علي هذا النحو الصارم؟. ما أعرفه أنه لايقول بذلك سوي عقل جاهل بتراث هؤلاء. إن الدعوة الي التوازن بين العقل والشرع دعوة مقبولة شريطة أن تكون مقرونة بمبدأ الإمام محمد عبده: تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض ومن يؤمن بذلك فأنا معه, وإلا فله سبيله ولي سبيلي, ما ظل لاينكر علي إسلامي ولا أنكر عليه إسلامه, فالاجتهاد مباح, ومثلي لايهدف إلي إحلال العقل محل الدين, فهذا لايحدث إلا في فكر مختل, لو كتبه كاتب أو أساء به لظن قارئ. ولهذا لا أزال مؤمنا بمفهوم التنوير وليس غيره, وأشفق علي كل من يسيء فهمه كما شرحته, وأوكل أمر من يقرنه بالكفر إلي الله فمن كفر مسلما فقد باء بها. ولذلك فمن الخير أن نطلق علي أي اعتزال معارض تنويرا وليس إشراقا, فالتنوير هو المصطلح الأدق والأدل علي تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض وعلي مايلزم عنه, في اجتهادي, من مفهوم الدولة المدنية الحديثة التي أدعو إليها ومعي عقلاء مسلمون كثيرون في هذه الأمة من الذين يؤمنون بالله ورسوله, ويرون أن تكفير غيرهم لهم هو فعل الكفر نفسه.