من المعروف أن العديد من الدول الآسيوية وفي مقدمتها اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية تعتمد اعتمادا كبيرا علي الطاقة النووية كبديل عن النفط, ولكن المخاوف المتعلقة باجراءات السلامة والأمان غالبا ما تمثل مصدر ازعاج للحكومات والمواطنين علي حد سواء, بالرغم من الدور الذي لعبته هذه الطاقة في توفير طاقة كهربائية رخيصة لم تساعد فقط في تسهيل حياة المواطنين ولكنها لعبت دورا حاسما في دعم الصناعة في تلك البلدان وفي دعم اقتصادها لتحتل ترتيبا متقدما علي المستوي العالمي. وقد بنت حكومات هذه الدول مصداقيتها طوال الفترة الماضية سواء في الداخل أو الخارج علي التزامها بتطبيق أقصي معايير واجراءات الأمن والسلامة حفاظا علي أرواح مواطنيها من جهة وتأكيدا علي المكانة المتقدمة التي وصلت اليها صناعاتها من جهة أخري. ولكن يبدو أن هذا الوضع في سبيله للتغير وخاصة في كوريا الجنوبية تحديدا التي تشهد حاليا أسوأ أزمة يتعرض لها قطاع الطاقة النووية منذ سنوات, بعد أن تكشفت حقائق وفضائح تتعلق بتورط عدد من المسئولين في بعض الشركات المتخصصة في مجال اصدار شهادات الصلاحية والجودة في تزوير الشهادات الخاصة ببعض قطع الغيار علي مدار العشر سنوات الماضية. فاذا أخذنا في الاعتبار أن الطاقة النووية ساهمت ولسنوات عدة في توفير ثلث احتياجات كوريا الجنوبية من الطاقة الكهربية, فاننا سندرك علي الفور تأثير الازمة علي قطاع الطاقة بأكمله بعد أن تكشفت الحقائق حول العلاقات المتداخلة بين شركات ادارة المفاعلات النووية والموردين المتعاملين معهم وشركات اختبارات الامان. وفي تقرير لها حول ما حدث ذكرت صحيفة' الهيرالد تربيون' أن الأزمة التي تتصاعد حدتها لتصبح مثل كرة الثلج لا تتعلق بتجاوزات فردية ارتكبت ولكنها تتعلق برشاوي وتقارير مزورة حول اختبارات الأمن والسلامة لبعض المعدات الحساسة, مما شجع البعض للقول بأن التواطؤ بين هذه الاطراف لعب دورا أساسيا ودفع رئيس الوزراء لتشبيه ما حدث بأنها مافيا مكتملة الحلقات. وكانت خيوط الفضيحة قد بدأت في شهر أبريل الماضي بعد توافر معلومات عن وجود بعض التجاوزات, مما أدي لبدء تحقيق رسمي أسفر في النهاية عن توجيه اتهامات لبعض المديرين التنفيذيين في احدي الشركات المتخصصة في مجال اجراء اختبارات الأمان في المنشآت النووية بتلقي رشاوي مقابل تزوير هذه التقارير, كما وجهت اتهامات مماثلة للمسئولين بالشركة المنوطة بتشغيل المفاعلات بقبول قطع غيار ومكونات غير مطابقة للمواصفات, والأسوأ من ذلك أن المحققين اكتشفوا أن المكونات محل الفحص والتحقيق تم تركيبها بالفعل في حوالي14 منشأة لتوليد الطاقة النووية من أصل23 منشأة موجودة بكوريا الجنوبية. السلطات من جانبها لم تقف مكتوفة الأيدي, حيث أغلقت ثلاثة مفاعلات بشكل مؤقت نظرا لأهمية وحساسية قطع الغيار محل الفحص ومن المتوقع طبقا للتحقيقات أن يتم اغلاق المزيد في المستقبل, حيث ينتظر أن تقوم فرق التفتيش بمراجعة أكثر من120 شهادة اختبار تم اصدارها خلال العقد الماضي لمراجعة مدي سلامة وصدق هذه الشهادات. وكمؤشر علي مدي جدية التحقيقات وأيضا علي عمق المشكلة قام المحققون مؤخرا بشن حملات تفتيش علي مكاتب أكثر من30 شركة من الشركات الموردة لقطع الغيار, لمعرفة ما اذا كانت شهادات الجودة مزورة أم لا, خاصة وأن بعض قطع الغيار ذات أهمية قصوي مثل الكابلات المستخدمة في ارسال اشارات لتشغيل اجراءات الطواريء في حالة وقوع الحوادث. وهو ما جعل المواطنين أكثر توترا حيال هذا الملف بعد أن أصبح أمان وسلامة المفاعلات النووية الهاجس الأكبر لديهم, خاصة بعد أن بدأوا المواطنون يعانون بالفعل من الاخطاء التي وقعت فيها هذه الصناعة, حيث بدأت حملة قومية تدعو المواطنين لترشيد استهلاك الطاقة الكهربية وهي دعوة تزامنت مع فصل الصيف الحار الأمر الذي أثر سلبا علي الجميع. أما الأهم والأخطر فهو الأبعاد الاقتصادية لمثل هذه الفضائح, فقد اعتمدت كوريا الجنوبية ولفترة طويلة علي الترويج لنفسها باعتبارها دولة تملك الامكانيات التكنولوجية الكافية لتصدير خبرتها في مجال انشاء مفاعلات نووية معتمدة وآمنة ورخيصة, بل أن الحكومة سبق وأعلنت عام2011 عن خطة تهدف لأن تصبح أحد أكبر ثلاث دول منتجة للطاقة النووية في العالم الي جانب الولاياتالمتحدة وفرنسا وذلك بتوسيع حصتها في السوق العالمية من المفاعلات النووية التي20 % بحلول عام2030, وبموجب الخطة فان كوريا الجنوبية سوف تطور محليا تكنولوجيا تمكنها من بناء مفاعلات نووية تتمتع بأفضل أداء وبأعلي درجات السلامة لتصل الي أضعاف المستوي الذي توصي به الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهي خطة توقع لها المسئولون أن تخلق مليون فرصة عمل وتساعد الشركات الصغيرة والمتوسطة علي زيادة ايراداتها لحوالي13 مليار دولار. ومن ثم فان هذه المشاكل ستؤثر سلبا علي مستقبل كوريا الجنوبية في هذا المجال, كما ستعصف ايضا بالاستثمارات المستقبلية. لقد أكد عدد من المناوئين لهذا البرنامج النووي أن المؤشرات علي وجود أخطاء وتجاوزات كانت واضحة, ملمحين الي تغاضي الحكومة عن ذلك, وهو ما دفعها لاتخاذ اجراءات سريعة لامتصاص غضب الرأي العام من بينها فصل المتورطين, والوعد بتشديد الاجراءات لمنع المتورطين من تولي مناصب في المستقبل, كما تعهدت الحكومة بمنع موردي قطع الغيار التي ثبت تزوير وثائق سلامتها من العمل لمدة عشر سنوات علي الأقل, وهي اجراءات يري المواطنون والمتخصصون أنها غير كافية فهذا القطاع في حاجة لاجراء مزيد من التغييرات الجذرية في نظام المراقبة والفحص, والأمر متروك الان للمسئولين للتصرف وبسرعة لاستعادة ثقة المواطنين في هذا المجال الحيوي الذي يعتمد عليه اقتصاد البلاد.