قولا واحد, ليس في مصر الثورة التي تستهدف إقامة دولة مدنية ديمقراطية, وتكفل نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية, أي مكان لأحزاب دينية تستهدف إقامة دولة دينية وإخضاع المجتمع لإسلام التعسير والتشدد. لقد كان إنشاء مثل هذه الأحزاب بالمخالفة لنص قوانين الأحزاب خطأ جسيما يتحمل تبعته المجلس العسكري الحاكم وقتها. وقد تبين للقاصي والداني الأضرار التي جرتها هذه الأحزاب علي مصر وشعبها خلال الفترة الوجيزة التي اقتنصت فيها السلطة والنفوذ المجتمعي. ولعله من حسن طالع مصر المحروسة بالعناية الإلهية أن وصلت هذه الأحزاب للسلطة بسرعة ساهم في زيادتها المسار الانتقالي المعوج الذي أصر عليه اليمين المتأسلم ورضخ له المجلس العسكري إما خديعة بحسن نية أو ابتزازا. وتأكد حسن الطالع باندلاع الموجة الثانية الكبيرة من الثورة الشعبية العظيمة لتصحيح الانحراف الذي احدثته سلطة اليمين المتأسلم بعيدا عن نيل غايات الثورة وعن مصالح شعب مصر, وانحازت القوات المسلحة لشعب مصر إلي شعبها مؤسسة للمرحلة الانتقالية الثانية التي وضعت لها مسارا أسلم للتحول الديمقراطي. لقد أخفي اليمين المتأسلم مشروعهم للدولة الدينية تحت المسمي البراق ولكن المخادع المسمي بالمرجعية الإسلامية. ووقعت الجهات المسئولة عن قيد الأحزاب الجديدة في هذا الفخ. ولكن سنة واحدة من الحكم بينت بما لا يقبل التشكيك غرضهم الذي زادوا عليه تقويض الدولة في مصر تمهيدا لإقامة دولتهم البديلة, والعمل علي هدم جيش مصر ربما خدمة لأغراض حتي أدنأ. إن الأحزاب, ككيانات اعتبارية, تقوم لغرض, ويمكن أن تندثر إن هي فقدت مبرر وجودها أو أضرت جسيما بالسياسة وبالمصلحة العامة. ليس في ذلك من غضاضة. والأحزاب الدينية في مصر ما كان لها أن تقوم أصلا. وليس في هذا الموقف أي دعوة لانتهاك الحقوق الإنسانية المشروعة لمن انتموا لهذه الأحزاب ولو أجرموا في حق الشعب الوطن بالمشاركة في العنف ولو لفظيا أو في التحريض عليه, فهذه الفئة الباغية وحدها يتوجب التعامل معها بصحيح القانون واحترام حقوقها الإنسانية وعلي رأسها المحاكمة العادلة أمام قاضيها الطبيعي, ولكن يجب أن يبقي باب العودة إلي حضن الشعب والوطن مفتوحا لكل من عداهم. أما من أجرموا في حق الشعب والوطن, فليس من حق أحد, أيا كان موقعه أو منصبه, أن يسعي لخروج آمن لهم. لقد اختارت قيادات هذه الأحزاب, والجماعات الضالة التي أنشأتها نبتا ساما من أصل خبيث, أن تدق المسمار الأخير في نعشها بانتهاج ترويع الشعب, ردا علي الخروج الشعبي الكاسح علي سلطتها الفاشلة والمخادعة ببؤر الإرهاب المتمثلة في الاعتصامات المسلحة والإرهاب الهمجي الخسيس في سيناء. ولا يخدعن أحد نفسه, فهذه الاعتصامات ليست قاصرة علي أشياع جماعة الإخوان الضالين بل يؤمها اتباع جماعات اليمين المتأسلم جميعا. ويصرون علي ابتداع جريمة جديدة كل يوم. لقد تنطع أحد أشباه الرجال في واحد من اعتصاماتهم الإرهابية بالقول إن النساء والأطفال علي استعداد للشهادة. إن غاية الخسة هي الاتجار بالأطفال الصغار الأبرياء واستعراضهم كمشروعات شهداء يحملون اكفانهم ولافتات معدة لهم تزعم أن والدهم شهيد وانهم علي طريقه سائرون, ثم يتضح أنهم أيتام تاجرت ببراءتهم وحاجتهم جمعيات تابعة للإخوان الضالين, تسمي خيرية ولكنها ليست في الخير ساعية, لغرض سياسي دنيء ومفضوح. إن الأحزاب الدينية التي تبين ضررها يمكن, بل ينبغي أن تختفي من الساحة السياسية في مصر. ولكن اقصاء الدين, لا سيما الإسلام, من الوجدان المصري مستحيل. يقيني أن اجيال الشبيبة المصرية هي التي ستبدع تحول مصر إلي الحكم الديمقراطي السليم سبيلا إلي النهضة الإنسانية البتي قامت من أجلها الثورة الشعبية العظيمة وإن تعثر مسارها عندما وقعت تحت حكم اليمين المتأسلم. وفي هذه الساحة الشريفة موقع مهم لشبيبة أطهار من ذوي المرجعية الإسلامية ابرياء من أدران تنظيمات اليمين المتأسلم سرية الطابع وإرهابية المنحي, شريطة نبذهم للعنف ولترهات الدولة الدينية والتنظيمات العابرة للوطن, يتنافسون علي عقل ووجدان المصريين في منظمات واحزاب مدنية في سياق ديمقراطي, حر سليم وصحي. غير أن المطلوب منهم تبني مرجعية إسلامية مستنيرة تنطلق من شريعة الباري عز وجل في المحبة والتراحم. مناط الحديث هنا هو الاختيار المطروح بين قطبين, الأول, وهو وحده الإلهي الثابت والمقدس والمعصوم, ويتمثل في المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية السمحاء, وهي خمسة أساسية تستهدف أصلا حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وهي تناظر عناصر جوهرية في منظومة حقوق الإنسان, ويتفرع عنها مقاصد فرعية مثل الحرية والكرامة الإنسانية, والتي تعني إسلام العقل والعدل والإخاء والمساواة والمحبة والتراحم. أما الثاني فهو البشري والمتغير, والذي قد يدنس بأهواء البشر وقصورهم, وهو أحكام الفقه التي يتوصل لها بشر يجتهدون في تفسير الشريعة, وفيه, من ثم, المستنير والميسر, والممكن من التقدم في القرن الحادي والعشرين من مسيرة البشرية, ولكنه لا يخلو من المتشدد والمعسر والرجعي المكرس للتخلف. ويتمثل ذلك الأخير من صنف الفقه المكروه, وفق الإسلام القويم, في تطبيق أحكام الشريعة بالمفهوم الشكلي والقاصر المتمثل في حماية العفة الظاهرية وتطبيق الحدود ولو من دون توافر شروطها الشرعية, وهو فهم مبتسر وقاصر للشريعة سجين للتفسير العقيم الذي تبناه في صحراء نجد الجرداء منذ قرنين محمد بن عبد الوهاب لفقه بن تيمية المتشدد والمعسر علي الخلق, عزوفا عن رحابة الشريعة التي يحب فيها الله أن تؤتي رخصه. مطلوب إذن جسر فكري متين, بعيدا عن التلفيق السطحي بين هذا الإسلام والمدنية الحديثة, وليس بالأمر الهين. فالغرض هو إحياء أفضل ميزات الحضارة العربية الإسلامية, من منطلق التنوع المثري والمواطنة المساوية بين الجميع, بالتزاوج مع أفضل منجزات الحضارة البشرية. ولعل عقلاء التيار الإسلامي الذي نفضوا ايديهم من تنظيمات اليمين المتأسلم يأخذون علي عاتقهم هذه المهمة الصعبة بدون شك بالدعوة إلي تكوين فريق قادر من المجتهدين المستنيرين لصوغ هذا الجسر الفكري المطلوب لصحة المرجعية الإسلامية في السياسة في مصر. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى