كنت فى مؤتمر دولى فى عاصمة عربية منذ أول يوليو، وكان جميع المشاركين يتابعون بقلق وشغف مجريات الموجة الثانية الكبرى للثورة الشعبية العظيمة فى مصر التى كثيرا ما كتبت أنها قادمة لا محالة. ولحسن حظى غادرت قبل انتهاء المؤتمر لأعود إلى القاهرة قبل إعلان وزير الدفاع خطة الطريق للمرحلة الانتقالية الثانية للثورة الشعبية بدقائق. وعندما استمعت للبيان تذكرت أننى نشرت فى هذه الصحيفة يوم الثلاثاء 23/ 4/ 2013 مقالا بعنوان «رسالة مفتوحة إلى القوات المسلحة لشعب مصر: لا تسامح فى الخيانة»، بدأته بالقول: «هذه رسالة إلى القوات المسلحة لشعب مصر، وهذا هو التوصيف الصحيح للجيش المصرى، فالقوات المسلحة المصرية جميعها من الشعب وإلى الشعب. والشعب هو، بلا مراء، صاحب السيادة الأعلى الوحيد على كل من ينتمى إلى قواته المسلحة. من يدعى غير ذلك، ولو باستدعاء ما كُتب فى أوراق كدستور معيب اختطف بليل ولصوصية، إما مخادع أو مخدوع. ولكن لا تحمل هذه الرسالة كما قد يتصور البعض، تعجلا ويأسا من سلطة الحكم الراهنة، دعوة إلى قيادات القوات المسلحة المصرية للعودة إلى حكم البلاد». ثم عددت الشبهات الجنائية التى تحيط بالفريق الرئاسى ومَن وراءه من قيادات اليمين المتأسلم ويبلغ بعضها، لو صح، حد خيانة الوطن. واختتمت المقال هكذا: «فإن كنا لا ندعو إلى، ولا نحبذ، عودة قيادات القوات المسلحة إلى حكم البلاد، فماذا نطلب؟ نطلب عملية جراحية دقيقة تُجرى بكفاءة قتالية بارعة وحاسمة لإصلاح الحياة السياسية فى مصر تتكون من العناصر التالية: أولا: أن ترعى القوات المسلحة تحقيقات نزيهة وعاجلة فى مجمل هذه الاتهامات التى تحيط بها شبهة الخيانة وتعلن نتائجها على الملأ فى أقرب فرصة. ويحسن أن يكون ذلك من خلال لجنة تحقيق خاصة يرأسها قاضى القضاة (رئيس محكمة النقض) وتضم عددا من كبار القضاة المشهود لهم بالحيدة والنزاهة وتتاح لها جميع وثائق أجهزة الأمن المدنية والعسكرية. ثانيا: أن تحيل من يثبت عليهم اتهام بجرائم تلحق بها شبهة الخيانة إلى المحاكمة العاجلة والناجزة أمام قاضيهم الطبيعى، مترفعة عن إحالة مدنيين إلى القضاء العسكرى. ثالثا: أن تدك مكامن أى ضالين من داخل مصر أو خارجها شاركوا فى هذه الجرائم أيا من كانوا، من دون الإخلال بالتزام مصر الاستراتيجى بنصرة القضية الفلسطينية ومكافحة المشروع الصهيونى». وقد أجرت قيادة القوات السلحة لشعب مصر هذه الجراحة الدقيقة فعلا بكفاءة قتالية بارعة وحاسمة وفوق ذلك بأرقى صورة من التوحد والتآلف الشعبى المحيط بالقوات المسلحة فى قلب هذا المشهد الرائع من الوحدة الوطنية. إن القوات المسلحة لبت نداء شعب مصر مصدر السيادة الأوحد والذى استدعاها لتصحيح مسار الثورة الشعبية، ولم يكن تدخل الجيش لمنع الاحتراب الأهلى الذى دأبت قيادات اليمين المتأسلم على تأجيجه انقلابا عسكريا بأى حال ما دام الجيش لا يحكم بل توقف دوره عند تيسير إدارة مدنية يرأسها كبير قضاة المحكمة الأعلى فى البلاد. والغرض من هذا المقال كما يدل عنوانه هو التحذير من أن تطغى اعتبارات المصالحة الوطنية، الواجبة والمطلوبة بإلحاح، على اعتبارات إحقاق الحق وإقامة العدل. فبالإضافة إلى القرائن التى تضمنها المقال السابق، فقد تكشف لنا بعد سقوط حكم اليمين المتأسلم قرائن أخرى على عمالتهم لقوى خارجية كما أضاف الإخوان الخداعون خاصة لجرائمهم السابقة على السقوط أخرى جديدة تضعهم فى شبهات الخيانة والإرهاب فى تشنجات سقوط حكم اليمين المتأسلم. هناك أولا الوثيقة التى خرجت من غمار حرق ونهب مقر الإخوان، وتبيّن المكافآت التى دفعتها حكومة قطر لقيادات الإخوان الخداعين وحزب الوسط، الذى تبين أنه يعمل بمثابة حصان طروادة لهم، وبعض من مناصريهم. وتظهر الوثيقة توقيعات المستفيدين أمام المبالغ التى تقاضوها وتبلغ مئات ألوف الدولارات للفرد فى العام الحالى وحده، ولم ينقض بعد إلا نصفه. هم إذن مستعملون من قبل قوى خارجية، وهذا مبلغ وطنيتهم وإسلامهم. ويعضد الاتهام بالعمالة لقوى ومخططات خارجية، على الأغلب معادية للمصلحة الوطنية المصرية، ما تأكد من الاتصالات التى أجراها مرسى وعدد من قادة الإخوان بأمريكا ودول أوروبية، لإقناعها بأن ما حدث يوم 30 يونيو هو انقلاب عسكرى لا بد أن يتدخلوا لإفشاله ولو بالقوة المسلحة مستعْدين قوى خارجية على جيشهم ووطنهم.. ويذكرنا هذا بهيئات الفتوى المدعاة والتى تكاثرت كالفطر البرى فى السنوات الأخيرة وغايتها على ما يظهر هى التمكين لحكم اليمين المتأسلم فى أكبر عدد من الدول العربية، وإضفاء الشرعية الدينية على أفعالهم ولو خالفت قويم الإسلام. وعودة إلى الظرف الراهن فى مصر، فبدلا من السعى للانضواء فى المرحلة الجديدة من الثورة الشعبية العظيمة خدمة لصالح الشعب والوطن، وهم من ادعوا قيادة الثورة، سارعت قيادات الإخوان المخادعين إلى ترتيب اختفائها تمهيدا لهروبها ربما إلى حمى فصائل أخرى من تنظيمهم الدولى، بينما ظلوا يحرضون أشياعهم من الدهماء على العنف المسلح وارتكاب الأفعال الإرهابية فى حق مؤسسات الدولة وحتى فى حق المواطنين الأبرياء. ولا يتوقف الأمر عند حد القصاص الواجب على الجرائم ضد الشعب والوطن، ولكنه ضرورى لحماية مستقبل الحكم الديمقراطى السليم فى مصر حتى يكون لمن يأتى بعدهم عظة. على أن من واجب أولى أمر المرحلة الانتقالية الثانية هذه وجموع الشعب المصرى، خاصة طليعة الشبيبة، التأكيد على أن نجاح الموجة الثانية من الثورة الشعبية يعنى، باستثناء من يقدمون لمحاكمات عادلة فى نظام كفء للعدالة الانتقالية الناجزة لتورطهم فى جرائم أضرت بالشعب والوطن، أو استحلوا المال العام من غير وجه حق، ضمان عدم إقصاء أى قوى سياسية من مختلف أطياف تيار الإسلام السياسى، وغيرهم، التى تقبل العمل فى الساحة السياسية كتيارات ترتضى مجمل مكونات النسق الديمقراطى السليم لدولة مدنية حديثة تقوم على المواطنة المتساوية للجميع وفى أحزاب مدنية بكل معنى الكلمة وإن تبنت مرجعية إسلامية مستنيرة لا تبتغى إلا وجه الله والوطن ولا تستغل الدين ستارا لأغراض سياسية دنيئة يسمو عنها الإسلام الحنيف. غير أن الحيطة واجبة تجاه تيار لم يتورع عن الخداع والعنف وتتطلب مراجعة قوانين وإجراءات تكوين الأحزاب والانتخابات لكى يكون مستحيلا أن تنشأ أحزاب على أساس دينى إقصائى ولو بالمراوغة، ويمنع أن تتنافس هذه الأحزاب فى الانتخابات بتوظيف الإغراء والغواية الدينية المخادعين، منعا باتا. وهذا هو المضمون السليم للمصالحة الوطنية التى تستهدف إعادة بناء مصر فى سياق مشروع جاد للنهضة الإنسانية يمهد له إقامة البنى القانونية والمؤسسية للحكم الديمقراطى السليم وتقوم عليه دولة تنموية قادرة وفعالة.