صاحبي أجل لقاءنا المرتقب يوما بعد يوم وهو يحاول تحليل الأوضاع مع زملائه الشباب منذ نهاية الجولة الأولي من الانتخابات, ثم, وفجأة, فاجأني ظهر أمس دون سابق موعد يسأل, يتساءل, وكأنني مصدر معرفة, صاحبي يبدأ من الأمور الجارية: هذه النتيجة الغريبة, أو المستغربة, كيف نفهمها؟ ومن أين لحياتنا النيابية من هذا التحول المفاجئ؟ أم أنك لم تفاجأ؟.... صاحبي يتحدث عن النتائج التي يري أنها مفاجأة للدورة الأولي لانتخابات مجلس الشعب الجديد, وهو يعبر بذلك عن شعور قطاع واسع من الشعب, وكأن الجديد, كل جديد, يعتبر مفاجأة, ربما لأن الأجيال الجديدة اعتادت أن تدرك الأمور منفصلة عن السياق متناسية بذلك ألا شيء يأتي من فراغ وأن كل ظاهرة لها جذور وصياغة تاريخية لا سيما في المجتمعات العريقة صاحبة المسيرة الحضارية التي لم تنقطع برغم الصدمات. صاحبي يواصل التساؤل: يعني أفهم من كلامك أن نتائج المرحلة الأولي للانتخابات كانت متوقعة؟ ولو كانت متوقعة, فلماذا بالضبط شاهدنا هذه النسبة غير المرتقبة لتقدم مختلف مكونات الإسلام السياسي في ديار مصر؟. رأيت أن نبدأ من البدايات ربما نهتدي والبدايات في موضوع تحولات مصر ربما يكون بإدراك مقتضيات وضع مصر الجيوسياسي, كما أجمع عليها كبار المفكرين المصريين, خاصة جمال حمدان وحسين فوزي وصبحي وحيدة, وثلاثتهم من الذين يقف شباب اليوم علي أعمالهم وأفكارهم ولو بشكل محدود, إن جوهر هذه الأفكار هو: ان مكانة مصر الجيوسياسية تجعلها تتأثر بنسبة مرتفعة الي حد ملفت بدوائر الصراع المحيطة إيجابا وسلبا. وقد ظهر توجه جديد لتكوين كوادر الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا وكذا التعليم والثقافة في دول المعسكر الاشتراكي, بالاضافة الي استمرار البعثات الي العالم الغربي مع تزايد نسبة البعثات الي الولاياتالمتحدة بوصفها القطب الأهم في القطاع الغربي. صاحبي يتساءل: طيب يا أخي, ما علاقة هذا كله أعني ما علاقة تكوين كوادر المجتمع علي هذا النحو بالانتخابات المصرية؟... العلاقة مباشرة واضحة وضوح الشمس علي ما أعتقد: غالبية الطلائع السياسية في دول الشرق والبلاد العربية, خاصة مصر والشام وكذا تركيا وإيران, تمثل الطبقات والفئات الاجتماعية الوطنية الصاعدة سياسيا والتي تشمل قطاعا واسعا من البيئات والأسر التقليدية المحافظة, كان هذا منبع أحزاب مصر التاريخية: الحزب الوطني, والوفد المصري, ومصر الفتاة, والحزبين الاشتراكي والشيوعي في مقابل الأحرار الدستوريين والسعديين والكتلة هذا في الجزء الأول من القرن العشرين, الي أن تشكلت مختلف صور الحزب الأوحد بعد حركة23 يوليو من الاتحاد القومي الي الاتحاد الاشتراكي حتي الحزب الوطني الديمقراطي, وكذا تكونت جماعة الاخوان المسلمين منذ1928 ولكنها لم تحظ بالعلنية حتي مطلع هذا العام. صاحبي يتساءل: من أين إذن هذا الانقلاب الذي نشهده في ترتيب الأحزاب السياسية, إذ ان الأحزاب التقليدية لا تكاد تحتل مقاعد ثلث النواب الجدد في الدورة الأولي, بينما أكثر من الثلثين يمثلون الإسلام السياسي, أي الاخوان المسلمين والسلفيين, تري هل حدث انكسار أو فجوة في المسيرة الاجتماعية والسياسية المصرية؟... نعم, حدث انكسار, بل انكسار علي مرحلتين, الانكسار الأول تمثل في تفتيت صعود منجزات الثورة المصرية بعد هزيمة يونيو1967 وهي التي حددت الغرض من انشاء الدولة الصهيونية علي حدود مصر النهضة والثورة, وقد أحدثت النكسة جرحا عميقا في الوجدان المصري بحيث اقتنع الملايين من شعب مصر بأن الثورة الوطنية لا ولن تجدي لو فقدت الصلة بالبعد الروحي الايماني, ومن هنا بدأت صحوة الاسلام السياسي بين جماهير الشعب الوطني المؤمن, بينما اتجه مئات الآلاف ثم الملايين الي الهجرة وقد ساد اليأس ديار مصر. صاحبي يقاطعني: طيب يا أخي انتهت هذه المرحلة بعد عبور اكتوبر, أليس كذلك؟.. عبور أكتوبر التاريخي كان انجازا تاريخيا رائعا للعروة الوثقي بين شعب مصر وجيش الوطن, كان يمكن أن يكون فاتحة عصر جديد, ولكن موازين القوي الدولية لم تكن كما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية, ذلك أن الاتحاد السوفييتي الأسبق تفكك عام1991 حيث زال من الوجود القطع المعادي للامبريالية الغربية, نصير ثورات شعوب الشرق التحريرية, بشكل أصاب في الصميم أركان تحرك مصر بعد أكتوبر وهي في أدق مركز جيوسياسي في العالم, وكان أن اختار رئيس مصر آنذاك التهاون بعد التصالح مع الدولة الصهيونية ثم وخاصة الولاياتالمتحدة, وقد تجلي ذلك في معاهدة كامب ديفيد(1978) التي فات إدراك بعدها التاريخي علي العديد من القوم, لم يقتصر الأمر علي الاعتراف بالدولة الصهيونية, وانما الأخطر كان شرط تفكيك اقتصاد مصر الوطني حول القطاع العام, قاعدة تحرك أكتوبر, والاعتماد علي مصدرين رئيسيين لتأمين المعيشة: الاستيراد, بدلا من الإنتاج والتصدير, والمعونة المالية الأمريكية من ناحية, ثم تهجير الأيدي العاملة والكوادر الي ديار النفط في الجزيرة العربية والخليج, وقد نتج عن هذه الهجرة المفروضة علي ملايين المصريين بعد تفكيك اقتصادهم الوطني أن عاد الملايين منهم محملين بأفكار تلك البلاد من الوهابية إلي مختلف ألوان السلفية وهو الأمر الجديد علي ساحة الإسلام المصري العريق. من هنا جاءت موجات التغيير التي تجلت في نتائج المرحلة الأولي من الانتخابات التشريعية الأخيرة. قال صباحي: إذن ما تشهده اليوم في قصص الانتخابات هو ناتج موضوعي لما أصاب مصر من جراح. مرحلة جديدة يجب أن يتعلم خلالها جميع الوطنيين كيفية الحفاظ علي خصوصية مصر عبر إدراك أن التناقض هو جوهر الوجود.. أليس كذلك؟.. [email protected]