صاحبي يوالي الزيارة وكان الموضوع الذي جمع بيننا منذ شهور من النوع الذي لا ينتهي بخاتمة وكل عام وانتم بخير يستهل مجلسنا الجديد متسائلا: طيب يا أخي, عرضنا لمداخل عدة الي مجموعة من القضايا الداخلية والخارجية التي تواكب تحرك الوطن في مرحلة ترتفع فيها وتيرة التحديات. وتشتد فيها المخاطر.. أتسأل, بل اسألك وجها لوجه: كيف يمكن تفعيل ما اتفقنا عليه؟ كيف يمكن تحريك الأمور؟ كيف يمكن, في كلمة, أن تعيد مصر ترتيب أوراقها؟ ما هي الأداة أو الأدوات؟ من؟ وكيف؟.. صاحبي يقودنا الي ساحة العمل, والعمل في هذه المرحلة بالذات يعني في المقام الأول العناية بالعملية الانتخابية الكبري المقبلة, إذ انها من شأن المصريين أجمعين وكذا فإنها تدفع الي الأمام احزابنا السياسية وحركتنا الاجتماعية ومدارسنا الفكرية الي الصف الأول تحت الأضواء. أقول هذا بمناسبة تدفق الافكار والاقتراحات والمشروعات التي ينقصها حقيقة قدر من التنظيم والحشد. صاحبي يفكر بصوت عال: طيب يا أخي: كيف يمكن تنظيم الافكار وحشدها اعدادا للمعركة الانتخابية المقبلة التي نري جميعا أنها علي قدر عظيم من الأهمية؟.. تقاليد العمل السياسي بوجه عام, خاصة في مطلع المرحلة الانتخابية جميع بلدان العالم تتطلب جهدا خاصا من الأحزاب السياسية التي ستقود المعركة الانتخابية, أي اننا ننتظر منها أن تقدم لنا توجهات واضحة أي برامج عمل محددة تفصيلية تعالج القضايا والتحديات والمسائل المطروحة. وبالفعل نري ان الأحزاب السياسية تقدم عادة مجموعة من المبادئ والأفكار والاقتراحات تأكيدا وتحديدا لخصوصيتها وتمايزها بالنسبة الي الأحزاب الأخري, ومن الملاحظ ايضا أن قلة من هذه الأحزاب تعرض لقائمة أهداف تتعهد بتحقيقها لمواجهة كبري القضايا والمشكلات والآمال, مصحوبة بشرح أدوات التنفيذ وكذا البرنامج الزمني. هناك طبعا المعاني العامة ولكن ماذا, مثلا عن القضايا الحيوية حقيقة التي ندركها جميعا وهي تتحكم في جميع المخططات الثانوية التي يتم حولها الشجار والتنافر والاختلاف بطبيعة الأمر؟. قطاع أول يتعلق بمصادر استمرار حياة المجتمع والشعب والأمة بكل معاني الكلمة أي: ضمان وفرة المياه, ضمان وفرة مساحات الأراضي المزروعة, ضمان الأمن الغذائي وفي مقدمته القمح والأرز والخضراوات واللحوم مصدر البروتينات. مجرد قائمة لأهم التحديات. ثم مجموعة المسائل المتعلقة بتوازن المجتمع لحظة الانحصار النسبي لوفرة المياه والموارد الزراعية انها قضية السكان, أو بمعني أدق قضية الانفجار السكاني الذي تشهده مصر منذ عقود والذي يبتلع ثمار التنمية ايا كانت معدلاتها ونجاحها. دول العالم الواعية توافقت ضمنيا علي حدود متزنة للإنجاب بحيث تواكب النمو المرتقب للموارد والامكانات المتاحة والمستقبلية. هنالك مثلا سياسة الصين منذ أكثر من نصف قرن لتحديد النسل الي طفل واحد في المدن واثنين في الريف, وهي النسب التي بدأت ترتفع تدريجيا لتواكب النمو الاقتصادي الهائل في الصين أي خمس المعمورة. هناك ايضا الارتفاع التدريجي الهادئ لنسبة المواليد في أوروبا بحيث تتناسب مع نمو هادئ في التعداد الكلي للسكان يوازي نمو الرغد الاقتصادي المرتقب وهناك تجارب أخري في قارة أمريكا اللاتينية علي تنوعها, كلها تصب في ضبط النمو بشكل لا يصطدم مع نمو الموارد المرتقبة دون مبالغة. وفي مقدورنا أن نوازن بين جميع المعطيات الإنسانية والمجتمعية والاقتصادية والثقافية لنتجه الي معدلات نمو سكاني معقولة, علي عكس ما نشهده الآن من ارتفاع لا يهتم بنمو إمكاناتنا, خاصة وقد ارتفعت نبرة التحذير بارتفاع حدة أزمة المياه والغذاء في العالم خاصة في دائرة الجنوب التي نحن في قلبها. ثم: ما هو موقف كل من أحزاب مصر من ارتفاع حدة التهديدات التي تحاصر أمننا القومي, خاصة وفرة مياه النيل وتفجر مخاطر تقسيم السودان جنوبا شرقا, أي اضعاف جنوبالوادي العزيز, في الوقت الذي ترتفع فيه نبرة العدوانية الصهيونية علي ساحة الشمال الشرقي؟. صاحبي يضيف بعد التأمل: وكذا ما هو الموقف بالنسبة للقوي الصاعدة خاصة العظمي والكبري, في مرحلة صياغة العالم الجديد؟ كيف نتعامل معها؟ كيف يمكن الإفادة من سياسة الكسب المشترك بيننا في شتي المجالات؟ ما هو ترتيب الأولوليات. اسئلة تصب في المليان, والحق ان جميع هذه الموضوعات الحيوية منها والمهمة مطروحة علي الساحة, أي انها ليست غريبة علي الحركة الفكرية في ديارنا. ولكن الحركة الفكرية في ديار مصر منذ ثلاثة عقود تدور حول قضايا محدودة معظمها يعني بمواجهة مصاعب الحياة اليومية وضرورة تضبيط فوضي العلاقات الاجتماعية في عصر يتسم بانحسار قيم ومعاني الاقتصاد الوطني الانتاجي والتخطيط المركزي أمام تدفق قيم مجتمع الليبرالية الجديدة التي لا تعرف لقدسية السوق بديلا. وكذا فان هناك قسطا من الاهتمام بالقضايا الحيوية التي عرض لها صاحبي, وهو علي حق تماما ولكن هذه القضايا يتناولها يوما بعد يوم كتاب المقالات في صحافتنا اليومية والدورية بشكل اساسي وكأنهم يستشعرون واجبا وطنيا ملحا لابد أن يلقي عناية في المجال العام, وبالفعل تعودنا علي قراءة دراسات ومقالات رأي وتحليلات لكبري التحديات المباشرة, وكذا المستقبلية الضالعة بفضل أقلام جادة, تنوعت مذاهبهم ومناجهم ولكنهم جميعا يصبون في بؤرة تعبئة الفكر المصري وتسليحه من أجل مستقبل يحافظ علي الاستقلالية والتنمية والتوازن المجتمعي, علي أمل المشاركة في كتيبة العاملين من أجل صياغة عالم جديد لابد وأن يكون لمصر في قلبه مكانتها ومقامها حفاظا علي امنها. * صاحبي يتساءل: طيب يا أخي انا معك في ادراك هذا الدور المهم لمفكري وكتاب مصر الذين يواصلون بعناية الكتابة في وسائل النشر بانتظام خاصة الصحافة بتعمق وجدية ملفتة حقيقة في معظم الاحيان. ولكن هل تتصور يا أخي لحظة واحدة أن هذه الكتابات في حد ذاتها تكفي لتحريك الأمور وتخطيط برامج العمل وانجاز المشروعات والرقابة علي توزيع ثمارها؟. أي في كلمة: هل تتصور لحظة واحدة أن هذه الكتابات الثرية المضيئة يمكن أن تحل محل التنظيم والعمل الحزبي يدا في يد مع تطوير اداء الدولة؟.. أم ماذا؟. صاحبي يقودنا الي قلب دائرة التحدي الذي لابد من مواجهته بصراحة تدفق الكتابات الجادة والذكية, بل والطليعية احيانا هو بمثابة مصباح كاشف يضيء الطريق وهو مصباح لا غني عنه بأي حال من الأحوال, وفي أي ظرف من الظروف ولمصر حقيقة أن تسعد بابنائها المتطوعين للعمل العام والتفكير المستقبلي. بقي أن تحريك الأمور وصياغة القوالب والانماط المجتمعية الجديدة وبناء الجسور بشكل جريء نحو جديد العالم هي من صلب مهام الدولة والأحزاب السياسية. * قال صاحبي: اقول لك؟... كأننا, معشر المفكرين والكتاب, احضرنا جميع أنواع الأغذية من خضراوات وبقول ولحوم وألبان وخبز وفواكه الي المطبخ الوطني لإعداد وجبتنا الرئيسية السخية الجديدة. واذ بنا ننتظر حضور الشيف لطهي هذا كله ونراه قد تأخر أو ربما لما يدرك تماما حاجتنا اليه.. هذا اذا ارادنا أن نعيد بناء العمل الوطني لنتجاوب مع تحديات ونفيد من امكانات العالم الجديد... اتفقنا؟.... المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك