تحية وإجلالا لشهداء ثورة مصر التي اطلقها شباب مصر يدا في يد مع جيش الوطن لحظة25 يناير2011 التي فتحت بابا ناصعا من تاريخ الامة وزلزلت اركان الموقف السياسي والركود الفكري في الدائرة المحيطة وكذا, ودون مبالغة, في اركان دائرة الهيمنة. لاشئ يبدأ من فراغ, كل شئ, كل ظاهرة, كل تحرك له تاريخ, كيف يمكن اختصار الطريق بين ادراك تركة رحلة مصر, مهد الحضارة ومقتضيات ثورة الشباب؟ المهمة تحتاج الي فتح ابواب تحرك مصر التاريخي تجاه تحركها المستقبلي في مواجهة محاولات التسلق الي مجد الثورة ومحاولة الافادة من تناقضاتها وكذا تحديات الزمان المتاح. قاعدة التحرك المصري تجاه المستقبل هي امتداد للقاعدة التاريخية لنهضة مصر وانجازاتها منذ مطلع القرن التاسع عشر الي حرب اكتوبر, وهذه القاعدة تتمثل في العروة الوثقي, اي الجبهة الوطنية المتحدة بلغة العصر, بين شعب مصر وجيش الوطن. أولا ظهرت في الآونة الاخيرة كتابات واقوال منسوبة الي اقلام احاطت بها اجواء العصور المظلمة ومن بينها النقشبندي وحتي المقريزي وكلها تصف الشعب المصري بالخنوع والانكسار والتبعية والعجز, وهي المقولة التي سادت كتابات معظم المستشرقين في الغرب, وكذا افكار وعقلية ووجدان وسلوك كوادر الدول الغربية التي سيطرت علي اقدار الدائرة الشرقية وخاصة عالمنا العربي ومصر في قلبه. ومن هنا وجب الاشادة بكتابات نخبة وطنية مرموقة اضاءت الصحافة والاعلام المرئي, خلاصة هذه الكتابات النيرة عن تحرك الشعب المصري عبر التاريخ جمع بين توجهين, التوجه الاول هو التحرك الي المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة في مواجهة الطغيان, الي جانب الاتجاه الي دعم الحكم لو رأي فيه ما يحقق العدالة والانصاف والتعامل الانساني الكريم, كان هذا هو تاريخ شعبنا المصري عبر الاجيال الخمسين لعصر الحضارة الفرعونية, كما نطالعه في كتاب الموتي, نشيد العدالة والقيم الصالحة عبر مسيرة الحياة, وحكاية الفلاح الفصيح المطالبة بحق الشعب امام غطرسة الفرعون, ملحمة نطالع معانيها في العديد من كتابات عصر التنوير, ومن بينها كتابات حسين فوزي وشفيق غربال وعلماء المصريات المصريين والدوليين علي حد سواء, وكاذا ما يقدمه مثلا زميلنا طه عبد العليم في كتاباته منذ سنوات ويلخصه علي صفحات الأهرام. وهنا استأذن الزميل الكريم حلمي النمنم للاستناد لعرضه الدقيق لتاريخ ثورات مصر منذ مطلع التاسع عشر: في القرن التاسع عشر.. وفي خلال اربع سنوات, بين عامي1801( تاريخ خروج الحملة الفرنسية من مصر) حتي سنة1805 اسقط المصريون في حركات شعبية تلقائية ثلاثة من الاحكام او الولاة. ومازالت كتب التاريخ تذكر كيف تحرك المصريون لاسقاط خسرو باشا وخورشيد باشا والاطاحة بالبرديسي واختيار محمد علي, وفي سنوات محمد علي كثرت وتعددت حركات التمرد وكثرت الانتفاضات, خاصة الفلاحية منها. وفي القرن العشرين هناك الهبة التي قامت في مصر بعد مذبحة دنشواي واسقطت اللورد كرومر, ثم درة الثورات سنة1919, التي قام بها شعب اعزل ضد الإمبراطورة المنتصرة في الحرب العالمية الأولي, وفي سنة1935 كانت الانتفاضة الكبري التي اجبرت بريطانيا علي التفاوض مع مصر واعادت دستور1923, ثم انتفاضة1946, التي قام بها الطلبة والعمال, اما في النصف الثاني من القرن العشرين فيكفي ان نتذكر مظاهرات1968, ثم في1972 وفي يناير1972 ثم انتفاضة الخبز في81 و91 يناير..1977( المصري اليوم2011/2/11). ثانيا ملحمة الجيش المصري منذ مطلع القرن التاسع عشر حاضرة في الوجدان وان كانت علاقتها العضوية بتحرك الشعب المصري في حاجة الي التركيز بعد وثبة مصر الجديدة منذ52 يناير. جيش مصر الحديث كان من صنع ابراهيم باشا الكبير الذي يعرفه شباب اليوم في تمثاله التاريخي علي صهوة جواده في ميدان الاوبرا في قلب القاهرة, وكذا في الجامع بأسمه بالاسكندرية, ولكن قل من يدرك عبقرية هذا المفكر الاستراتيجي والقائد الحربي العظيم.. عرف اولا كيف يستوعب في سنوات قلائل تعاليم البعثة العسكرية التي ابقاها والده محمد علي برئاسة سليمان باشا, من كبار ضباط جيوش نابوليون, فقام جيش مصر الحديث علي اعلي مستوي من التنظيم والقدرة الحركية. ثم ادرك ابراهيم باشا ضرورة تعلم ضباطه اللغة العربية كي يقودوا الجنود من الفلاحين المصريين بفاعلية وذلك منذ الحملة المصرية الاولي عبر الشام لدعم تحديث الحكم العثماني المرهق في تركيا. كان هذا بعد قيادته اولي لحملة جيش مصر الحديث ضد الوهابيين في الحجاز حماية للدولة العصرية الصاعدة في مصر. وبعد ان تحالفت اوروبا لكسر صحوة دولة النهضة المصرية في عصر محمد علي في معاهدة لندن1840 اضطر الجيش الي الانحسار في عصر عباس, ثم بدأ يعود الي مستوي متقدم بفضل الخديو اسماعيل, وشارك في حملات خارجية بجدارة, الي ان جاء يوم امساكه بمطالب الشعب والحركة الوطنية الديمقراطية الصاعدة بعد ان اتاح لها اسماعيل تكوين اول مجلس نيابي في مصر والعالم العربي. ومن هنا تحرك احمد عرابي ومحمد عبيد وزملاؤهما للتقدم الي ساحة عابدين بمطالب الشعب الي الاستقلال النيابي والحريات مما اثار الغرب, تحرت بريطانيا لغزو مصري1881 ويحارب جيش مصر الجديد المحدود بكل ما كان يمتلك من اصرار حتي انكساره في معركة التل الكبير, هكذا بدا عصر الاحتلال البريطاني من1882, ولم ينته الا علي ايدي ثورة مصر بقيادة الضباط الاحرار عام.1956 وفي عصر الاحتلال تم تفكيك الجيش الي ابعد الحدود, ولم يسمح له الا بالظهور علي شكل فيلق العمل المصري, وهو فرقة من الفلاحين والعمال المساعدين للجيش البريطاني في الحرب العالمية الاولي ضد جيش تركيا, صديقة الامس حليفة المانيا في هذه الحرب. بدأت صفحة جديدة من التاريخ مع ثورة1919, وبينما اتجه الوفد المصري الي التفاوض, قام امير الألاي( العميد) عبد الرحمن فهمي باقامة التنظيم السري, الذي قاد الثورات الشعبية المسلحة ضد جيش الاحتلال من1919 الي1923 ثم اعلان دستور مصر الاول واستقلالها المحدود برئاسة الملك فؤاد. ثم جاء اهم تطور في1936 عندما قرر حمدي سيف النصر, وزير الحربية الوفدي فتح ابواب الكلية الحربية لشباب الشعب دون تمييز مالي ولاطبقي هو الذي اتاح لجمال عبد الناصر وزملاؤه ان ينضموا الي هيئة ضباط الجيش الوطني. الي ان جاء تتويج مسيرة جيش مصر الوطني العظيم في ملحمة حرب اكتوبر1973, ذلك ان الفريق عبد المنعم رياض وصحبه تولوا اعادة بناء القوات المسلحة بعد نكسة1967 السوداء. ثم تقدم عبد المنعم رياض المرة تلو المرة حتي ضفاف قناة السويس لمواجة العدو الي ان جاءت محاولته الاخيرة اذ اصابته نيران مدفعية العدو, وكأنه اراد الاستشهاد لالهام جيش مصر قبل التحرك في اكتوبر. وعندما جاء التحرك, تولي الفريق سعد الدين الشاذلي رئاسة الاركان ليحقق تنسيق عملية العبور ببراعة فائقة, ثم يرفض وقف القتال وفك الاشتباك حتي الاطاحة به, ليصبح رمزا بعد ذلك لرفض معاهدة كامب ديفيد وما تلاها من دمار. ولعل القدر شاء ان يرحل الفريق سعد الدين الشاذلي صانع النصر في اكتوبر, يوم احتفال شعب مصر بانتصار ثورته يوم الجمعة11 فبراير. من هنا تتواصل مسيرة مصر الجديدة قال صاحبي: طالما تحدثت عن الجبهة الوطنية المتحدة لشعب مصر من اجل الاستقلال والحرية, وها هو ذا تاريخ ثورات مصر يبين انه لولا العروة الوثقي بين شعب مصر وجيش الوطن, كما اعلن تفكيك الحصار المفروض علينا, في الداخل والخارج, خاصة وقد اقتحمنا التاريخ في طليعة المشاركة في صياغة العالم الجديد! المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك