سهرات الشهر الكريم أوشكت أن تنتهي فيعود صاحبي إلي زياراته المتقطعة ولكنه والحمد لله لايتركني هذه الأيام. يبدأ منشرحا ثم سرعان مايتحول متسائلا: صلنا وجلنا في أركان ساحة الوطن أعلم اننا حاولنا أن نضيء بعض الساحات المهمشة, أو الغائبة في ضجيج انتشار القيم السوقية وضجيج المسلسلات.. طيب.. حاولنا... ولكن لا أخفي عليك أن هناك بعدا مهما قد نسيت أن تركز عليه بالقدر الكافي اقترحنا أفكارا ومواقف وصيغا علها تساعد مصر الحبيبة علي ترتيب أوراقها في ظروف التحدي نعم: التحدي.. أقصد بذلك تحدي العالم حولنا لا أقصد تحدي القوي المعادية التي نعرفها جيدا, ولكن أقصد تعاملنا, نعم تعامل مصر مع جديد العالم.. والغريب حقيقة أن جميع كتاباتك منذ الستينيات من القرن الماضي علي امتداد كبري مراكز العالم الفكرية دائمة التركيز علي هذا الموضوع, الذي تصفه بأنه ساحة الانتقال من مرحلة تغيير العالم إلي بدايات مرحلة صياغة العالم الجديد ربما نحاول في نهاية هذه الجولة أن نتسأل: كيف يمكن أن تعيد مصرنا الحبيبة صياغة رؤيتها وبالتالي علاقاتها مع هذا العالم الجديد الطالع؟ صاحبي أصاب كلامه في المليان حقيقة, جو غريب يسود تفكير قسط واسع من الطلائع المؤثرة, وكأنها تستشعر اختناقا بين المنطق والأمل المشروع, وبين الوضع المفروض, وأنت تعلم ياصاحبي أن بداية هذا المأزق كانت أيام اعتناق فكرة أن أمريكا تمتلك99% من الأوراق منذ ثلاثة عقود وبالفعل تفكك الاتحاد السوفيتي ومعه جبهة الدول الاشتراكية بين1989 و1991 بحيث انتهي عصر القطبية الثنائية التي رتبت أحوال العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام1945 هذا وقع تاريخي لاجدال عليه, وقد اثار شماتة أعداء الاشتراكية في كل مكان بطريقة منطقية لاغبار عليها, ولكن اللافت ان قطاعا واسعا من القوي الوطنية التحريرية والتقدمية في العالم أي أكثر من ثلثي شعوب ودول العالم المعاصر لم تتعمق في فهم تقييم القادة الجدد في القطاع الاشتراكي, اذ رأوا علي حد تعبير زعيم روسيا الجديد بوتين ان ماحدث للاتحاد السوفيتي يمثل أكبر كارثة جيو سياسية في التاريخ المعاصر وهو رأي شاركته فيه الساحة الأوسع من القيادات والطلائع في الصين الطالعة. * صاحبي يقاطعني: يعني مادام الأمر كذلك, فما الجديد؟ ولماذا يري رواد الفكر الوطني والتقدمي الجدد أن حكاية ال99% غير مقبولة ولامفهومة؟... ماذا تبقي بعد صعود الدولة العظمي الأمريكية إلي مكانة الصدارة دون شريك بدءا من1991 ؟ أم أن هناك شركاء لم ندركهم؟ * صاحبي ربما يستفزني أو لعله يداعبني, لست أدري عدت معه إلي مشوارنا الطويل لدراسة صعود الجديد في العالم الذي عايشناه منذ العقود الثلاثين, منذ تفرد دولة الهيمنة الأحادية بالزعامة. الجديد في الحقبة المعاصرة, أي التي تلت نهاية نظام القطبية الثنائية, انما يكمن في وثبة عدد من القوي علي امتداد المعمورة. * صاحبي يقاطعني من جديد: انت تقصد الصين طبعا؟ أم ماذا؟ يا أخي, يا أخي, بدأت مداعبا قلت له: أول من يعلم صعود الصين الخارق من الصف الأول من عالم الغد هم كبار أخصائيي الجيوسياسة والجيوستراتيجية في الدولة الأمريكية العظمي البعض في القطاعات الهامشية يعبرون عن عدم الرضا إلي حد السخرية, ما علينا المهم هو واقع الأمر كما تدركه معظم دوائر العالم شعوبا ودولا. ولكن الأهم من هذا المهم يكمن في انتشار فكرة نظام عالمي يتخذ صيغة عالم جديد متعدد الأقطاب والمراكز والثقافات, وهي الفكرة التي يتداولها أغلبية المحللين والأخصائيين بصور متنوعة حسنا. المهم ان هذه الصيغة تقدم لمصرنا الحبيبة اليوم ساحة واسعة من الامكانات مازالت الطلائع عندنا إما لاتدركها في الأعماق أو في معظم الأحيان لم تتبين حتي الآن امكان التعامل معها فيما يفيد مصر. * صاحبي يتساءل مندهشا: يعني تقصد ياعزيزي ان توجهنا منذ ثلاثة عقود إلي دولة الهيمنة الأحادية يمكن الحفاظ عليه في الأساس, بينما نسعي إلي شبكة واسعة من التعامل مع الافادة من القوي الجديدة الطالعة في العالم؟ صديقي وصل إلي جوهر الموضوع.. نعم هذا ايماني ورؤيتي, وهو ايضا ايمان ورؤية القطاع الأوسع من العقلاء الذين يجتهدون لشق طريق مصر في هذا العالم الجديد الطالع أمامنا من كل ناحية. استسمحك يا أخي في العودة إلي ماذكرناه في مناسبات متعاقبة خلال السنوات الأخيرة ألا وهو ضرورة التفرقة بين الأنواع الثلاثة للقوي الصاعدة الجديدة. هناك أولا بطبيعة الأمر القوي العظمي, أي مكانة الصين إلي جانب الولاياتالمتحدة, ثم هناك المراكز الجديدة التي بدأت تتشكل حول عدد من الدول الكبري الموجودة بالفعل أو الصاعدة ومنها: اليابان وكوريا بعد وحدتها المرتقبة وفيتنام وعلاقتها بمجموعة أسيان( أي دول جنوب شرق آسيا) كما أن هناك دائرة منظمة شنجهاي للتعاون التي تربط آسيا الوسطي كلها بمحور الصين روسيا, ثم روسيا في علاقتها بالمانيا الجديدة هذا إلي جانب تركيا الصاعدة أمامنا تجاه دوائرها الثلاث, وكذا عملاق البرازيل قائدا لدائرة حلف أمريكا الجنوبية والوسطي, بينما تسعي أوروبا إلي التأثير عبر تخطي فوارقها القومية. والقائمة لاتنتهي بل ان نصف القارة الهندية وإيران وإفريقيا الجنوبية سيكون لها مكانة مهمة في دوائرها وذلك بأساليب وأشكال ومعدلات ايقاع متفاوتة. ليس هنا مقام التحليل التفصيلي وإنما الاشارة واجبة لتيارات عميقة كأنها مغيبة برغم أنها ساطعة أمامنا, دائرة الشرق الأوسط النفطية تمثل وبلا شك منطقة المصلحة والسيطرة للدولة الأمريكية وحلفائها, ولكن: كيف ننسي لحظة واحدة أن أهم المحتاجين إلي هذا النفط منذ سنوات وبشكل متصاعد هي دول مجموعة آسيا الشرقية أي الصين واليابان وكوريا في المقام الأول؟ كيف ننسي اننا نستورد القمح من روسيا؟ ولماذا لانهتم بما يقال انه أعجوبة الزراعة الواسعة في البرازيل التي يقول عنها خبراء منظمة التغذية العالمية أنها سوف تفي باحتياجات العالم من المواد الغذائية هذا بالاضافة إلي أن البرازيل بها مساحة تفوق مساحة أوروبا تمتاز بالخصوبة وقلة السكان وترحب بالأيدي العاملة؟ وما القول, ان لزم الأمر عن التقدم التكنولوجي الصاروخي للصين والهند بعد اليابان؟ عالم جديد يفتح أمامنا مجال التعامل والافادة من أوسع الأبواب هذا ولايتصور الوطنيون العقلاء الملتزمون بمستقبل مصر أنه يمكن فرض الحجر ومحاصرتنا بينما نرحب بمواصلة التعامل مع كبار اليوم وكذا القوي الجبارة الطالعة. ** قال صاحبي: يا أخي هذه بدهيات وتتصور أنك وحدك ادركت هذه المعاني, ماذا تقول؟ انك واحد بين مئات الملايين رأيت أن تفصح بما فيه الأمل أليس كذلك؟ أراك تبتسم تشاركني القول.. كل عام ومصر الحبيبة وأهلها بخير..!