لست ضد صعود الإخوان والسلفيين, وكذا لست من أنصار تلك المقولة التي أطلقها الرئيس الراحل أنور السادات, انه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة, فهي أفكار بالية أثبت الواقع العملي فشلها, كما أنه لابد من الاحتكام الي الصندوق, واحترام رأي الأغلبية أيا كانت, غير أنني أنزعجت بشدة من فكرة التصويت الطائفي التي بدأت بوادرها تظهر خلال المرحلة الأولي من الانتخابات, والتي انتهت جولة الإعادة بهاأمس الأول إيجابيات المرحلة الأولي كثيرة ومتعددة, أهمها الإقبال الهائل علي التصويت حيث بلغت نسبة الاقبال نحو52% وهي أعلي نسبة تصويت في تاريخ الانتخابات البرلمانية, وحتي تلك الانتخابات المزورة لم يجرؤ أحد أن يقترب من هذه النسبة القياسية, فما بالنا بانتخابات نزيهة بالمعايير الدولية, كما أن هذا الرقم يضع مصر في مصاف الدول الأكثر حضورا في الانتخابات, وأرجو أن يظل الاقبال كما هو بذات النسبة أو أعلي منها في المرحلتين الثانية والثالثة, ولا يقلل من تلك النسبة الرائعة ضعف الاقبال في جولة الإعادة, فهذا طبيعي جدا في الانتخابات, لان الإعادة دائما تشهد خروجا كبيرا لأغلبية المرشحين وبعد أن كانت المنافسة بين المئات في القوائم والفردي أصبحت المنافسة محصورة بين2 إلي4 مرشحين علي أكثر تقدير, وعلي حسب ظروف الإعادة وهل تجري علي المقعدين أم علي مقعد واحد. الإيجابية الثانية هي رد الشعب المصري الحاسم والواضح بأنه يملك قرار تحديد مصيره بنفسه, وأن المتصدرين للمشهد في الفضائيات لا يمثلون إلا أنفسهم أو علي أكثر تقدير يمثلون قطاعا محدودا, والأهم من ذلك كله أن الشعب المصري أعطي درسا قاسيا للنخبة السياسية والإعلامية وأثبت أنهم لا يفهمون هذا الشعب وطبيعته ورغبته في الحفاظ علي استقرار الدولة بعيدا عن عبث المراهقة السياسية والإعلامية. الأهم من هذا كله, أننا بدأنا مشوار الديمقراطية الحقيقي والتداول السلمي للسلطة, والانتقال من الشرعية الثورية الي الشرعية الدستورية من خلال صندوق الانتخابات بعيدا عن الادعاءات والمزايدات. علي الجانب الآخر, يبقي أخطر ما ظهر من سلبيات في تلك التجربة الرائعة ألا وهي التصويت الطائفي, وما حدث من حشد من جانب جماعتي الاخوان المسلمين والسلفيين من جانب, والكنيسة وحزب المصريين الأحرار من جانب آخر, فقد أخطأ الطرفان في الحشد الانتخابي علي أساس طائفي, واستخدام دور العبادة في العملية الانتخابية, والضغط بورقة الدين سواء الاسلامي أو المسيحي لصالح هذا أو ذاك وما صاحب ذلك من تصريحات أثارت قلق قطاع عريض من المصريين, بما فيهم المسيحيون حول تصورات بعض تيارات الإسلام السياسي حول مفهوم الدولة المدنية, والموقف من السياحة والاختلاط وحقوق المرأة والمواطنة, وهي تصريحات ربما لا تعبر إلا عمن أطلقها وليست بالضرورة أن تكون هي الموقف الرسمي لهذا التيار أو ذاك, إلا أنه آن الأوان لهذه التيارات أن تراجع مواقفها وتعيد حساباتها, لأن تاريخ الدولة المصرية الممتد عبر آلاف السنين ينحاز دائما الي أفكار التسامح وحرية الاعتقاد واستيعاب كل الآراء والأفكار في البوتقة المصرية ذات الملامح الخاصة القادرة علي قهر كل من يحاول العبث في مكوناتها. أتمني لو راجع كل طرف موقفه خلال الجولتين الثانية والثالثة, والأهم من ذلك هو الناخب نفسه الذي تتلاقي كل الخيوط بيده, ليصبح معيار الاختيار هو الصلاحية ومستقبل مصر ووحدتها الوطنية والأفكار والبرامج الذي يطرحها هذه الأحزاب أو تلك, بعيدا عن التصنيف الطائفي أو الحشد الديني, لأننا لا نريد تكرار تجربة لبنان أو العراق, فالديمقراطية الحقيقية لا تعترف إلا بالبرامج والقدرة علي علاج المشكلات بعيدا عن التصنيف العرقي أو الطائفي. الأحزاب الليبرالية مطالبة هي الأخري بالبعد عن الاستعلاء والمراهقة السياسية, والاعتقاد الخاطئ أنها تملك عقل وقلب الشارع, وإلا لما منيت بتلك الخسارة المذلة في الجولة الأولي, فالشارع ليس هو الفيس بوك وحده, وانما هو خليط ضخم من البشر والاهواء والمصالح يريد من يقترب منه, ويشعر باحتياجاته ويخاطب مشاعره ومصالحه في آن واحد ويراعي قيمة أساسية لا تنازل عنها وهي قيمة التدين, فالدين هو الجزء الغاطس في الإنسان المصري بشقيه الإسلامي والمسيحي, سرعان ما يتحول إلي الجزء الظاهر إذا أراد البعض أن يتجاهل تلك الحقيقة. المزيد من مقالات عبدالمحسن سلامة