في أيام العجب العجاب التي نعيشها قام مجموعة من الشباب بتغطية تمثال ام كلثوم في مدينة المنصورة. حجبوا وجه ورأس كوكب الشرق ظنا منهم انهم يمنعون الفتنة أو يعلنون هيمنتهم الفكرية علي المجتمع المصري ثم قامت مجموعة أخري من شباب المدينة بنزع ذلك الغطاء ولف التمثال بعلم مصر تقديرا واحتراما للفن وللمرأة وللثقافة بشكل عام والذين قاموا بتغطية وجه أم كلثوم يظنون انهم يطبقون شرع الله ويمنعون الفسق والفجور ويعلون كلمة الحق ويحاربون الباطل وهذه الحماسة الدينية في حد ذاتها مسألة إيجابية ولكنها حماسة تفتقد إلي المعرفة والوعي ليس فقط بقيمة الفن والثقافة وانما ايضا بصحيح الدين فالإسلام لم يقيد النساء ولم يمنعهن من ان يقمن بدور فعال في المجتمع علي مختلف الأصعدة في اطار الالتزام بالشرع وكانت السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله عنها وعن ابيها جدها كانت نعم المرأة المسلمة الصالحة العابدة صاحبة أول صالون أدبي في الاسلام اشتهرت بذوقها الفني الأصيل وتعمقها في فهم الشعر وتذوقه الي درجة انها تحكم ما بين الشاعرين الكبيرين الفرزدق وجرير وتقرر أيهما اكثر فصاحة وشاعرية والمعروف ايضا ان الخنساء واحدة من أهم شعراء العرب وأقول شعراء العرب وليس شاعرات العرب لأنها تجاوزت بإبداعها الراقي التصنيف ضمن الأدب النسائي كما ان الصحابية الجليلة الشفاء بنت عبدالله رائدة من رواد التعليم وقد اوصاها النبي صلي الله عليه وسلم ان تعلم زوجته السيدة حفصة أم المؤمنين واختارها سيدنا ابو بكر الصديق لتجمع صحف القرآن وتحفظه حتي انجز رسمه في عهد سيدنا عثمان بن عفان وغيرها من نماذج كثيرة مشرقة لنساء مسلمات لعبن أدوارا عظيمة في الجهاد والتربية ورفعة الدين وليس في الإسلام أي تحقير للمرأة أو تهميش لها بل ان ذلك التمييز ضد المرأة هو من سمات العقيدة اليهودية المحرفة وكان الأولي بنا ان نخالف تلك الأفكار لا أن نحاول وصفها بأنها إسلامية! أما علي المستوي الثقافي الدنيوي المعاصر فلا نعتقد ان ام كلثوم كانت مجرد صوت جميل تسري من خلاله الكلمات والألحان العذبة وانما هي حالة فريدة في الثقافة العربية الحديثة وقد تأثر بها كل من عاصروها من شعراء وكتاب ومفكرين وقدم الاستاذ مصطفي بيومي كتابا قيما بعنوان ام كلثوم في الأدب المصري يتناول فيه تلك الظاهرة الفنية في ابداعات وقصص كل من نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وعبدالرحمن الشرقاوي وفتحي غانم ويوسف ادريس وبهاء طاهر وصنع الله ابراهيم وعلاء الديب وجمال الغيطاني وهي في الحقيقة دراسة شديدة الجاذبية حول تأثر كل هؤلاء الكتاب بأم كلثوم وفي السطور التالية سنعرض بعض المقتطفات من هذا الكتاب لا تغني ابدا عن الاستمتاع بقراءته. يقول مصطفي بيومي في فصل أستاذ الرواية العربية نجيب محفوظ: ولعل ميرامار هي أكثر روايات نجيب محفوظ تجسيدا للمكانة التي تحتلها ام كلثوم وتعبيرا عن الدور الذي تلعبه في الحياة الفنية والاجتماعية معا إن العلاقة بين سكان البنسيون لا تتجاوز حدود التعارف الرسمية حتي اقتربت الليلة الأولي لموسم ام كلثوم فيعلم عامر وجدي انهم سيسهرون حول الراديو وانها ستكون ليلة طيبة عامرة بالشباب والغناء ميرامار ص49 ويستأنف المؤلف تحليله قائلا: سهرة أم كلثوم ليست مجرد استماع لغناء واستمتاعا به ولكنها أداة تواصل اجتماعي وتعاون إنساني تحرر من الروتين والملل وعلي هذا الرأي يجمع السكان المختلفون في كل شئ تقريبا؟أما في فصل الأستاذ إحسان عبدالقدوس يعتقد المؤلف ان أم كلثوم تشكل جانبا مهما من عالم ذلك الروائي ويقول في سياق هذا الاهتمام الطاغي بأم كلثوم في عالم إحسان عبدالقدوس تترك الفنانة الكبيرة بصماتها علي التشكيل ا لفني من خلال ثلاث ظواهر التشبيه وتوظيف الأغاني في نسيج العمل والتأثير علي بناء الشخصية. إن أم كلثوم مفتاح رئيسي للتواصل والتفاعل مع عالم احسان والسعي إلي تحديد الموقع الذي تحتله في إبداعه بمثابة المدخل الضروري للإحاطة بطبيعة هذا الإبداع. وفي جانب آخر من نفس الفصل يقول الأستاذ مصطفي بيومي: قصة الله الله.. يا ست من عنوانها إلي نهايتها خير تجسيد لمكانة أم كلثوم الاجتماعية فمكانتها الفنية ليست محل شك يبحث عن التأكيد الذي تصل إلي ذروتها في حفلاتها الشهيرة الحفلات الي ينظمها الناس ويجتمعون بفضلها فهذه الحفلات ليست مجرد مادة أغانيها فهي أيضا احتفال اجتماعي وعيد منتظر والمتحلقون حول أجهزة الراديو لا يسمعون بقدر ما يتكلمون ويستخرج مؤلف الكتاب من رواية الشوارع الخلفية للكاتب الإسلامي عبدالرحمن الشرقاوي مشهدا يشير إلي مكانة كوكب الشرق في سياق الأحداث الدرامية يقول الشرقاوي علي لسان بطلته:أما الليلة في المقابلة رجاء غنت حدة دور والنبي ولا أم كلثوم لازم نغنيه لكم تاني ويثور البك ويزفر بضيق قائلا: أم كلثوم؟! بقي كل واحدة تغني لها كلمتين تبقي أحسن من أم كلثوم؟! واد جورنالجي هلفوت يكتب له كلمتين يبقي أحسن من طه حسين؟! وان طلع واد يمدحله الملك ببيتين شعر مكسورين يبقي أحسن من شوقي بك؟ واي سنكوحة بقت أحسن من فاطمة رشدي! والله ده عال ده ايه ده؟! ويتناول فتحي غانم الدور الوطني لأم كلثوم بعد هزيمة1967 ويشير إليه الكاتب باهتمام شديد وهو دور بالتأكيد لم يحضره جيل الشباب الذي قام بتغطية وجه أم كلثوم فهذا الوجه وتلك الحنجرة هي التي أصرت علي الغناء الوطني الحماسي وتحدي الهزيمة واستنهاض الكرامة والمقاومة في نفوس المصريين والعرب وأم كلثوم هي التي سافرت في جولات بكل عواصم الوطن العربي وأوروبا لتقيم حفلات يذهب عائدها بأكمله للمجهود الحربي ولتسليح الجيش المصري وكانت النساء من مختلف الطبقات تتبرع فوق تذاكر الحفل بذهبهن ليتحول إلي بارود يسلح جنود مصر في حربهم ضد الصهاينة المعتدين في الوقت نفسه الذي كان بعض غلاة المتطرفين من أساتذة هؤلاء الشباب يسجدون لله شكرا علي هزيمة مصر أمام اسرائيل واحتلال العدو الصهيوني لأرضنا وتدنيسه لترابنا الوطني وقتله لأطفالنا في مدرسة بحر البقر ومدن القناة الباسلة كانوا يحتفلون بانتصار اسرائيل علي مصر لمجرد انهم علي خلاف سياسي مع رئيسها آنذاك جمال عبدالناصر! هذا هو تاريخ ام كلثوم وهذا هو تاريخ من يريدون تغطية وجهها واخفاء التاريخ لكن أم كلثوم سيظل صوتها يصدح معبرا عن رقي الفن المصري والشعر العربي وأسطورة الفلاحة البسيطة التي علمت الدنيا.