الحديث عن مسيرة تاريخ حضارة الصين وتحركها منذ مطلع القرن التاسع عشر من الثورة الي النهضة, كان يهدف الي إضاءة الطريق أمام شباب مصر بعد أن كسرت وثبة 25 يناير جمود السنوات الأخيرة, وكأن المستقبل ليس من نصيب مصر. وفي هذا الجو, جاءني صاحبي علي غير موعد يقتحم ركود المكتب بعد أن قصده من باب اليمين كالمعتاد, منذ اللحظة الأولي أمسك صاحبي بزمام المبادرة يستحثيني أن أوضح وأسهب.. قال صاحبي بأعلي صوت: هل قرأت ما تنشره الصحف والمطبوعات هذه الأيام عن موضوع الانتخابات؟ وهل يتصور أحد ممن واكب تحرك مصر منذ الحرب العالمية الثانية أن لدينا الآن حسب المعلومات المتوفرة 55 حزبا و6600 مرشحا ينافسون علي 498 مقعدا في مجلس الشعب, وهي أرقام تداولتها كبري الصحف العالمية وكأن في الأمر ما يثير التساؤل؟ إيه الحكاية؟ كيف يمكن بالله عليك أن تتوزع القوي المتحركة في المجال السياسي الي هذا العدد غير المألوف من الأحزاب؟ صحيح أن مصر ولادة, ولكن تزاحم عشرات الأحزاب علي الساحة يثير الدهشة, عشنا أيام الاستقلال الصوري والاحتلال وثورة 1919 ودستور 1923, في جو تعودنا فيه علي حزب الأغلبية وأحزاب الأقلية التي لا يتعدي عددها في البرلمان ثلاثة, هذا بالإضافة الي بعض الحركات الشعبية خارج البرلمان, كانت هذه أيام حزب الوفد في المقام الأو.ل يمثل الأغلبية يواجه معارضة تتكون من الأحرار الدستوريين ثم السعديين وأخيرا الكتلة, بينما حزب مصر الفتاة و الوطني خارج البرلمان, اختفت الحركة الشيوعية منذ مطلع الثلاثينيات حتي عودتها عام 1939, بينما تأسست جماعة الاخوان المسلمين عام 1928, البقية بطبيعة الأمر معروفة لدي شباب اليوم, وهي تتمحور حول حزب الدولة ومن حوله حزبا معارضة يمثلان اليمين واليسار في نسق امتد نحو نصف قرن, من أين لنا إذن أن يتزاحم عشرات الأحزاب اليوم؟... صاحبي يتصور أننا أمام أحزاب حقيقية, هناك في الواقع عدد محدود من الأحزاب يمثل كل منها مدرسة فكر وعمل معترف بها ولها مقامها في الصياغة التاريخية لحياتنا السياسية الوطنية, ولكن هناك عشرات التجمعات التي نشأت بدءا من 25 يناير والتي تمثل جماعات سياسية وفكرية أو حركية قد تتفق في التوجه الرئيسي مع غيرها, ولكنها تصر علي أن الخلاف في الاستراتيجية أو التحالفات الواجبة أو الممكنة أو ترتيب الأولويات انما هي أمور غير محتملة, وبالتالي لابد من التفرد بالتسمية والتنظيم, وقد لاحظ أصحاب الخبرة السياسية علي أرض الوطن كيف أن هذه الجماعات لا تقبل التفاوض, وتنبذ التقارب, وكأن التمايز لمجرد التعبير عن الرأي يبرر القطيعة, وهو ما يدل علي غياب ثقافة التفاوض, علي حد تعبير الأستاذ عبدالغفار شكر (الأهرام 25/11/2011م). صاحبي يقاطعني: أليس هذا المنظر طبيعيا في كل الثورات وفي كل أنحاء العالم؟ هذه مثلا الصين التي تحدثنا عنها, ألم يحدث مثل هذا التشتت في مراحل حاسمة من تاريخ الصين عندما ارتفع شأن عوامل التفرقة والتشتت بل والصدام؟ صاحبي انتقل بنا الي قلب تاريخ الصراعات التي صاغت وحدة حضارة الصين, باختصار انتصرت الصراعات في مختلف الأقاليم, أقاليم الصين بين 722 و481 ق.م, ثم تبلورت في مرحلة ظهور الممالك المتحاربة (475 الي 25 ق.م), كانت الصين, أي الدولة المركزية, تواجه الهجمات من الخارج وانتشار محاولات التفجير والتشتت من الداخل, كانت هذه مرحلة بداية التفكير في بناء سور الصين العظيم علي الأقل لتأمين الداخل من هجمات موجات العدوان الخارجي علي تنوعها, ولكن المهم والأهم وهنا جوهر موضوعنا اليوم أن هذه الفترة كانت أيضا فترة صياغة فلسفة الصين العظيمة حول المعلم الأول كونفوشيوس, وكذا لاوتسر الذي عرضنا لناحية من تعاليمه في لقائنا السابق خاصة مدرسة التاو وبروز سيون تزو رائد الجيوسياسة في تاريخ الانسانية وكبير الفكرين في هذا المجال حتي يومنا هذا. الذهول يكاد ينتاب صاحبي: طيب.. ولكن ما علاقة هذه النهضة الفكرية مع ظاهرة تفشي الأحزاب في مصر اليوم مثلا؟ وهل الفلسفة علي صلة بالتنظيمات الحزبية أم ماذا؟... عدت بالذاكرة الي أيام التآخي بين ثورة الصين بعد المسيرة الطويلة وبين الحركة الوطية التحريرية في مصر منذ الأربعينيات من القرن الماضي وليس هنا مجال الذكريات, وإن رأيت أن الواجب يجعلن لزاما علي أن أشير في هذا الأمر الي كتابي الصين في عيون المصريين ( كتاب الهلال القاهرة 2006), بيت القصيد في موضوعنا اليوم, أن دراسة طلائع الحركة التقدمية المصرية آنذاك لثورة الصين المظفرة قادت بنا الي ادراك التأثير العالمي العميق للكتاب الصغير الذي وضعه الرئيس ماو تسي تونج في أثناء اقامته في مغارات نيان بعد المسيرة الطويلة في التناقض كتيب صغير من حيث الحجم عظيم الأهمية من حيث التأثير, يبدو برسالة الرئيس الفيلسوف ماو التي تعلن أن التناقض جوهر الوجود. انها الفكرة الملهمة التي يسجلها البند الأول المختص بأيديولوجية الدولة والحزب في كل من دستور جمهورية الصين الشعبية وبرنامج الحزب الشيوعي الصيني, وذلك بعبارة فكر ماو تسي تونج. ومعني هذا أن الصراعات والتناقضات حقيقة واقعة في صياغة مسيرة جميع الأمم والحضارات, ومعني ذلك أنه لابد من ادراك أن فكرة التناقض وإنهاء الصراع تمثل اجتهادات وأماني بعيدة عن الواقع, إن فكرة التخلص من الطرف النقيض للطرف الرئيسي تؤدي الي استمرار الحروب الأهلية, وكذا فإن استمرار الصراع الايديولوجي بهدف القضاء علي الفكر الآخر, يؤدي الي تفتيت التراكم الفكري وتشرذم الأمة من الداخل. صاحبي يفكر بصوت عال طيب.. ده كان كلام زمان.. ماذا عن تاريخ الصين المعاصر؟ صاحبي علي حق, لابد من اضاءة علاج التناقض القائم بين الحزب الشيوعي الصيني من ناحية وحزب الكودينتاج الوطني الذي ينتمي الي سلالة الحزب الوطني الأول الذي تأسس عام 119, ثم تولي رئاسته المارشال شيانج كي تشك, وهو الحزب الحاكم الآن بشكل أساسي في جزيرة تايوان. تاريخ ثورة الصين في القرن العشرين هو تاريخ الحروب بين جيوش الحزبين, التي تخللتها بعض فترات الهدوء والتحالف المؤقت, بفضل قيادات الحزب الشيوعي الصيني, ثم بعد أن رفض المارشال شانج كي تشك عرض الرئيس ماو لتحرير العاصمة بكين يدا في يد بدلا من التحارب, اضطر الحزب الشيوعي الصيني الي اطاحة جيش المارشال شيانج وتحرير بكين واعلان تأسيس جمهورية الصين الشعبية في الأول من اكتوبر 1949, المسعي كان دوما الي الاعتراف بأن التناقض جوهر الوجود ولكن عندما رفض الطرف الرجعي المشاركة المعروضة عليه في اللحظة الأخيرة أصبح لا مفر من تخطي الوئام لتحقيق انتصار ثورة التحرير الكبري. قال صاحبي: حديثنا اليوم افتعالي, ارجاع العالم.. ثم رحت أفكر في مسيرة طليعة من أبناء مصر عبر ثوراتها اختاروا أن يهبوا حياتهم للجميعخ بين المتناقضات حالاتت تصب في نهر تحرير الشعوب ونهضة الأمم, هكذا كانت رسالة حياة رفيق النضال الوفي العزيز المشير أحمد حمروش من الضباط الأحرار وثورة مصر الي رئاسة الاعانة العامة لمنظمة شعوب آسيا وإفريقيا, اجتمعت من حوله القلوب يوم رحيله في كل اكتوبر نذكره من القلورب.. وكل عام ومصر بخير!.. المزيد من مقالات د.أنور عبد الملك