كنت في انتظاره منذ أيام, جاءني صديقي منذ يومين ساعة الغروب دون موعد من باب اليمين المؤدي إلي قاعة المكتب, مجلسنا المعتاد, كان يحمل حقيبة يد مكتظة بالمطبوعات علي تنوعها, وكأنه يعد رسالة, أو لعله يود أن يمتحنني.. قال صاحبي: كلما أطالع الوثائق والدراسات والمقالات تزداد حيرتي.. إلي أين يتجه العالم؟ وهل من نمط قديم أو جديد يمكن أن نهتدي به؟... أعرف آراءك ورؤيتك ولكن: ما هذا التخبط علي حافة الإفلاس في مؤتمر البيئة في كوبنهاجن؟.. هذه بعض الأوراق أرجوك رتبها, علنا نهتدي إلي شئ؟ رحت أقلب في الأوراق, وكانت المجموعة الأولي عن مستقبل أمريكا, الشغل الشاغل لكبري الصحف بعدما أصاب القوات الأمريكية في أفغانستان بعد العراق- دون مخرج واضح أو ممكن ومن بين الأوراق نتائج استفتاء قام به بالمشاركة مركز بحث بيو ومجلس العلاقات الخارجية الأمريكية حسب عادتهم كل أربع سنوات عنوانه.. مكانة أمريكا في العالم وقد علم صديقي علي بعض مقاطعه للأهمية, وقد شارك في هذا المسح ألفا شخص من الجمهور الواسع و642 من أعضاء المجلس نتيجة المسح الأولي منذ أربعين عاما هي أن غالبية الرأي العام أي47% قالت إن علي الولاياتالمتحدة ان تعني بشئونها الخاصة دوليا, وأن تترك بقية البلاد تسير في طريقها علي أحسن صورة في مقدورها هذا وقد كانت النسبة30% فقط في ديسمبر2002. ثم مقطع آخر وعليه تأشيرة صديقي بعلامة حمراء حول مسألة تشجيع الديمقراطية في الخارج: نتيجة المسح أن10% من أعضاء المجلس فقط تعتبر أن الدفاع عن حقوق الانسان أولوية اليوم, بينما كانت هذه النسبة44% عام2001 هذا بينما يري35% أن من واجب أمريكا تحسين مستوي المعيشة في الدول النامية. ثم تتناول نتيجة الاستفتاء صورة الدول الكبري في العقل الأمريكي معظم اعضاء المجلس. أي58% يرون أن الصين سوف تصبح أهم شريك لأمريكا في المستقبل ومن بعدهم55% ذكروا الهند, بينما بريطانيا لا تحظي إلا ب10% فقط, وكذا فإن21% من أعضاء المجلس يروون أن الصين سوف تصبح التهديد الرئيسي للولايات المتحدة, بينما كانت هذه النسبة38% عام2001 بينما,53% من الجمهور العادي يري أن الصين تمثل مثل هذا التهديد ثم تأتي أرقام تقدير المشاركين في الاستفتاء لمستقبل الاقتصاد العالمي: المدهش أن44% من المشاركين في الاستفتاء يرون أن الصين هي القوة الاقتصادية القائدة الآن, بينما27% فقط اختاروا الولاياتالمتحدة, هذا بينما واقع الأمر أن الاقتصاد الأمريكي يمثل الآن أكثر من ضعف حجم الاقتصاد الصيني. صاحبي يقاطعني في مداخلة كان يعدها علي ما يبدو قبل حضوره: يعني أن هناك, في رأي الجمهور وكذا الخبراء في أمريكا أن النمط الأمريكي في تراجع. طيب.. ومعني هذا أنهم يشعرون أن النمط الصيني يمثل المستقبل.. أليس كذلك؟... كنت أنتظر هذه المداخلة التي تبدو منطقية, وقد بدأت تنتشر في دوائر واسعة من الرأي العام في أنحاء الدنيا وليس فقط في الأجواء الأمريكية لكن مسألة النمط تثير تساؤلات حيرتني حتي الآن وعند هذا الحد عرض علي صديقي دراسة حديثة عن موضوع النمط الصيني حصل عليها من مجلة الشعب, لسان حال الحزب الشيوعي الصيني, بتاريخ16 ديسمبر عنوان هذه الدراسة المركزة هو: مسئولون وباحثون رفيعو المستوي يتساءلون عن النمط الصيني, المقال يستند إلي مجموعة أربعة مقالات تم نشرها هذا العام في جريدة حوليات دراسية, وهي الجريدة التي تصدرها مدرسة الحزب التابعة للجنة المركزية وذلك بأقلام أربعة من كبار المسئولين والمفكرين في الحزب بدأت أطالع هذا التقرير المهم غير المرتقب حقيقة وقد جاء فيه ما يلي باختصار شديد. الرأي الأول: يري أن من الأفضل التحدث عن الصفة الصينية المميزة بدلا من النمط الصيني ذلك أنه منذ بدء انفتاح الصين, لم يثبت مؤسسات الصين بشكل قطعي وهي مازالت في طور التنقيب فإذا قلنا النمط الصيني معناه أن هذا النمط سوف يكون هدف الاصلاحات في المستقبل. ثم يأتي رأي الخبير المسئول الثاني يعلن: إن الصين لا تقصد تصديرنمط ما ويري أن الصين لا تهدف أن تكون مثالا يتبع لبقية العالم ولذا يري تفضيل عبارة الحالة الصينية بدلا من النمط الصيني وعنده إذا قلنا الحالة فإن ذلك يعني خلاصة أفكار وسياسات وإجراءات وثمار مشاكل تنمية الصين الاجتماعية منذ ستين عاما, خاصة منذ بدء الاصلاح منذ ثلاثين عاما وعنده أن معني ذلك أننا نؤكد أن الحالة مازالت في تطور حتي الآن وستظل هكذا. وكذا يري الخبير المسئول رفيع المقام الثالث أنه من الافضل استعمال تعبير تجربة الصين أو طريق الصين للتنمية بدلا من النمط الصيني وذلك لأن مفهوم التجربة وكذا طريق التنمية يتيحان التطوير إلي مفهوم نمط الصين في المستقبل. ثم يختتم الخبير المسئول الرابع هذه الدراسة بتأكيد أن الأولوية الحالية إنما هي التقدم العلمي ذلك أن الصين واجهت مجموعة من المشاكل الخطيرة جدا علي طريق التنمية وانها دفعت ثمنا غاليا لانجاز التقدم ومعني ذلك أن الازمات تصاحب دخول الصين في عهد الازدهار, ومعني ذلك أن مثل هذا النمط الصيني لم يصل إلي مرحلة النضج والتكامل وبالتالي فإنه لا يمثل الواقع. صديقي لم يتشاءم ولكنه يتعجب ويعبر عن قلقه وهو يبحث عن الايمان.. ولكن حركة التاريخ ليست حقيقة جامدة ولا يمكن فهمها علي أساس إيماني.. المهم أن ننطلق من دراسة الواقع وتناقضاته لكي نهتدي إلي إمكانيات العمل والانجاز والتقدم, ونحن إذ نمضي في هذا الطريق, نكتشف أنه يمثل مسيرة طويلة مليئة بالمصاعب والتناقضات والمعوقات بل وعوامل الانتكاس الجزئي أو المؤقت. صاحبي يقاطعني: أين الضمان؟ ما هو مفتاح هذه العملية وقد تصور قطاع واسع من الرأي العالمي, حتي في قلب الولاياتالمتحدة, ان النمط الصيني يمثل المستقبل؟.. ما هو سر هذا الصرح الشديد من قبل الصين؟ سألت صاحبي أن نعود معا إلي رؤية العالم الجديد التي عرضنا لها المرة تلو المرة في هذا المكان في السنوات الأخيرة. هناك تصور سطحي يري أن النظام العالمي بقيادة القطب الأمريكي الأوحد المهيمن لا يمثل نهاية التاريخ ثم يمضي هذا الرأي إلي أن أفول نجم القطب الأمريكي الأوحد سوف يحل محله صعود القطب الصيني أي أن العالم ينتقل من هيمنة قطب أوحد في الغرب إلي هيمنة قطب مماثل في الشرق, وقد حاولنا أن نقدم رؤية مركبة تمثل التفاعل الجدلي بين مختلف القوي العالمية, ومعني ذلك أن العالم الجديد الذي بدأ يتشكل حولنا سوف يشهد تعدد الأقطاب وكذا المراكز والثقافات وهذا من ناحية كما أنه سيشهد انتقال مركز القوةوالتأثير في العالم الجديد- أي المبادرة التاريخية من المركز الأمريكي لدائرة الغرب المتقدم منذ القرن السادس عشر إلي دائرة الشرق الحضاري الأوسع, وفي قلبها الصين.. وسوف تتعدد المراكز الإقليمية حول دول كبري جديدة, وكذا تزدهر الثقافات في قلب دوائرها الحضارية التاريخية دون إقصاء. مرة أخري, المرة تلو المرة, يدرب العقلاء منهج الوصفات الجاهزة التي يقدمها التغيير المذهبي تقودنا الي طريق مسدود ذلك أن الاجتهاد يقودنا الي سماحة التفاعل بين النظام التقليدي القديم وما تطرحه عملية تغيير العالم من مداخل لمواكبة عملية صياغة العالم الجديد الهائلة. إن تجديد الرؤية التي ندعو إليها يقضي تغيير عاداتنا الفكرية, وإدراك ان الجديد لا يفترض بالضرورة إقصاء القديم. إن جوهر جديد العالم الجديد يكمن في تحديد أهداف التوجه وايقاع التحرك. قال صاحبي: يعني يا أخي تتركني هكذا في منتصف الطريق, حائرا؟ هكذا نودع تقلبات عام2009.. أم أنك تتصور أن دعوتك إلي الاجتهاد, والعمل هي طريق الأمل, بعيدا عن سراب الأوهام والوصفات السلفية الجاهزة: أراك تبتسم.. كل عام إذن وجميعا ومصر الحبيبة بخير...