شرح لي سائق التاكسي كيف يستطيع أن ينجو بنفسه من "خنقة" الزحام ويختصر كل المسافات بمعرفته الحميمة بالشوارع والحارات، ثم ضحك وقال :"أنا نجم شوارع، عفريت يعني"، لم أبادله ضحكته ولا حتي بابتسامة. أشيح بوجهي بعيداً حتي لا أتورط معه في حديث، فتصطدم عيني باللوحات الإعلانية الاستهلاكية للسلع والنجوم، إيقاع مجنون يتموج حتي يستقر علي أفيش فيلم "الجزيرة2" وتعلقت نظرتي بوجه خالد صالح، وكان ال"فيس بوك" تحول منذ الصباح الباكر إلي منتدي للدعاء له بالشفاء، إلي هامش أبيض أنسحب ومنه إلي مسرح الهناجر في العام 1997، ولي علاقة بالمسرح غير طيبة، حين ذهبت لمقابلة صحفية مع الفنانة سوسن بدر وكان لزاماً علي أن أشاهد العرض قبلها، وكان العرض هو "طقوس الإشارات والتحولات" نص سعدالله ونوس وإخراج حسن الوزير، استسلمت للعرض الذي انكسر فيه فضاء برودة علاقتي بالمسرح، وتعرفت في هذه الليلة علي ظلين لممثلين اتفقنا جميعاً وقتها أن قواعدهما ترسي لنجمين كبيرين، الممثلان كانا خالد الصاوي وخالد صالح. صار خالد صالح بعدها بسنوات ما أراد وما تنبأه له النقاد، كبر اسمه واتسع ظله علي الأفيشات واللوحات الإعلانية ومنحه صدقه وموهبته حضوراً استثنائياً في السينما (أحلي الأوقات، هي فوضي، تيتو، وحتي دوره العابر في حين ميسرة) والتليفزيون (تاجر السعادة، الريان، بعد الفراق، فرعون و..غيرهم).. من كل الأبواب دخل، ووراء كل باب كانت له قصة موجعة ومفرحة تفكك له "كعبلة" الطريق وتجعله يصدق صواب اختياراته ويدهشنا بعفويته في عالمنا المضجر، لكن هل كان بوسع القلب أن يتحمل أكثر؟ .. لم يستطع خالد صالح بحماسه الطيب أن يكمل دورانه حول أحلامه وأن يكون »عفريت الشوارع« ويجتاز الألم الذي مزق صدره، القلب ضل هذه المرة ولم يعد، مات خالد صالح. أستفيق من الصدمة علي صوت محمد منير يتسلل من كاسيت التاكسي: يا بلح أبريم يا سمارة سواك الهوي ف العالي هويت علي طمي النيل يا سمارة وشربت عكار لما استكفيت الأغنية التي كتبها أحمد فؤاد نجم عن الشاعر والمناضل اليساري النوبي زكي مراد ابن قرية "ابريم" بالنوبة والذي كان ملاذاً للموهوبين وجسراً لتطلعاتهم في التغيير يستطيع أن يدبر معهم الخطوة الأولي، وأن يكون لهم جسراً يسهم في تشكيل مصائره قبل أن ينتهي مصير زكي مراد نفسه بالاغتيال في العام 1979 حين أصبح متراساً بارزاً في شارع المعارضة وقام بتكوين الجبهة الديمقراطية الوطنية المعادية لمعاهدة كامب ديفيد وللهيمنة الاسرائيلية والأمريكية في مصر: لفيت الشارع والحارة علي زي نقاوتك فين ما لقيت.