في شوارع القاهرة المتكدسة ووسط ذلك النهر الممتد من السيارات الذي تحفه من الجانبين لوحات اعلانية ضخمة لزبادو وDHL وقف ذلك التاكسي حاملا راكبا أجنبي الملامح.."أنا من إيطاليا".."آه إيطاليا..بيتزا..المافيا..برلسكوني"..الراكب من إيطاليا هو المهندس بالمهنة، الصحفي ورسام الكاريكاتير بالهواية بينو كريانثيا (ألتامورا 1958) ، الذي عشق القاهرة وشوارعها فقرر أن يبرزها في رواية كوميكس مختلفة تجمع بين الريبورتاج والشعر والحوار الصحفي في رسوم تصف بدقة المشهد في مصر وخاصة بعد ثورة 25 يناير وخلالها..ويقول كريانثيا إنه اختار لروايته التي تحمل اسم "كايرو بلوز" شكل الكوميكس لأنه اعتقد أنه مناسب لطرح موضوع يقوم في أساسه علي العمل الصحفي باعتبار أنه ينجح في تحقيق نوع من التواصل العاطفي مع القارئ، كما أن الرسومات تكون أكثر قدرة علي توصيل الفكرة من الكلمات وحدها.ويوضح الصحفي الايطالي أنه لم يعش الاحداث التي يقدمها في كتابه بشكل كامل ولكنه وثقها بشكل دقيق.."لقد وثقت كافة الاحداث بشكل دقيق جدا يمكنني من أن أقدم بنية تجمع بين كافة الاشكال الصحفية بدءا من التحقيق التقليدي وحتي الحوارات الصحفية"..ويشير إلي أنه حتي الحوارات التي يتضمنها العمل ليست جميعها أجراها بنفسه ..ويضرب المثل علي ذلك ب16 صورة كاريكاتورية رسمها للناشطة أسماء محفوظ من حوار استغرق 4 دقائق و 36 ثانية كانت تتحدث فيه عن ثورة يناير . وخلال رحلته مع الرواية واجه الصحفي الايطالي العديد من التحديات كان أبرزها جمع المصادر والتحقق منها واعادة صياغة المادة وترتيب الاحداث "إنه أمر صعب للغاية ان تلخص في اربع صفحات فقط موقفا معقدا وغنيا بالاحداث"، مع الاخذ في الاعتبار طبعا انه ليس قصاصا محترفا وهو ما يزيد الامور صعوبة بطبيعة الحال..ويضيف الكاتب :"أفضل أن أتناول مجمل الموقف من زوايا متعددة مثلما يحدث في ملحق خاص من مجلة ما مثلا، حيث يتم التركيز علي موضوع بعينه بشكل مستفيض ، فالثورة السياسية والقمع الوحشي الذي تعرضت له لا يمكن أن ينفصل عن غشاء البكارة المطاطي الذي تلجأ إليه الفتيات لاثبات عذريتهن قبل الزواج".ويري كريانثيا أن المقال الصحفي لو قرأته كاملا فربما ستقرأه مرة واحدة ولن تحتاج لأن تفعل ذلك مرة ثانية أما في الكوميكس فإنك كلما نظرت إلي الرسومات فستكتشف تفاصيل تدعوك كل مرة لاعادة التفكير في الاحداث..أما عن اختيار اسم الكتاب فهو مأخوذ عن أغنية لفريق راديو درفيش أو "راديو درويش"، وهي الاغنية التي تركز علي أصول موسيقي البلوز الافريقية.وعلي الرغم من أن كريانثيا ليست لديه الخبرة الكافية في مجال الفنون الجميلة أو الكوميكس إلا أنه استثمر تقنياته الخاصة في تجميع الصور واخضاعها لبرنامح رقمي علي غرار الفوتوشوب ثم يبدأ في الرسم عليها رقميا.."دوما كنت أقول للشباب ألا يصابوا بالاحباط لانهم لا يجيدون الرسم .. فأنت لا تحتاج لأن تكون فنانا لكي تروي قصة"..ويضيف:" أنا أعشق التفاصيل، والعمل علي الصور يوفر لي كل ما يسمح بان أقرر اي تفاصيل سأبقي عليها وتلك التي سأستبعدها".وقد اختار كريانثيا لرسوم روايته أن تكون بحجم كبير "سبلاش" حتي تتيح له أن يقدم أكثر التفاصيل حميمية كما اختار ايضا اللون الابيض والاسود ليتماشي مع ذلك الخليط بين رمال الصحراء والكتل الاسمنتية المنتشرة في القاهرة.. "القاهرة هي مدينة من المتناقضات .فهي دافئة ولكنها مغبرة ..تموج بالحياة ولكنها بلا ذاكرة..علي الرغم من أن الكثير من مبانيها جديدة ولكنها مهملة بلا أدني قدر من الصيانة". وعلي الرغم من أن كايرو بلوز ليس عملا غنائيا إلا أن الشعر له دور مهم جدا فيه، حيث اعتبره الوسيلة التي يمكنه من خلالها نقل مشاعره وانبهاره بالطابع المعماري للقاهرة..ويعترف الكاتب الايطالي بأنه لم يكن يقصد أن يحول الرسوم التي يتناول فيها تجربته في القاهرة إلي كتاب إلا أن المشروع تطور رويدا رويدا حتي أصبح رواية كوميكس .ويركز كايرو بلوز بشكل خاص علي أحداث ثورة يناير التي انتهت بسقوط نظام مبارك ويبرز رسوما للنشطاء الذين نزلوا للشوارع خلال هذه الفترة.وعلي الرغم من أن الرواية قد تمت ترجمتها إلي اللغة العربية إلا أنها حتي الآن لم تطرح في الاسواق لا في مصر ولا في العالم العربي..ويقول الكاتب إن الظروف التي مرت بها مصر خلال العامين الماضيين حالت دون صدور الترجمة العربية للرواية حيث لم يكن الوقت مناسبا لذلك..وهو يأمل في أن تتحسن الظروف بعد الانتخابات الرئاسية وتسمح بخروج الرواية للنور..وعلي الرغم من كتابه الذي حاول فيه تقديم انعكاس للواقع في مصر إلا أن كريانثيا يقر بأنه لن يكون من السهل عليه القيام بالامر نفسه في ايطاليا.."انه من الصعب جدا فهم ما يحدث في ايطاليا حتي بالنسبة لنا نحن الايطاليين". بمناسبة طرح الكتاب في اسبانيا الشهر الماضي ، أجرت صحيفة البريوديكو الحوار التالي مع بينو كريانثيا.. -انت إيطالي تعمل كمهندس في الاصل..ولكن ها أنت تتناول الثورة المصرية في كتاب كوميكس..كيف حدث ذلك؟ لقد سافرت إلي مصر للعمل كمهندس وبالفعل زرت عدة مصانع ولكن في وقت الفراغ كنت اتجول في شوارع القاهرة .وخلال تلك الفترة جمعت مادة غزيرة حول الطابع المعماري والحياتي والناس في مختلف الاحياء .الحقيقة أنني لم أكن في مصر وقت اندلاع الثورة في ميدان التحرير ولكني كنت شاهدا غير مباشر علي الاحداث، لقد حصلت علي اذن من عدد من الصحفيين والمدونين والمصورين الصحفيين المصريين لاستخدام المادة المصورة الخاصة بهم.لقد أردت أن أركز علي تلك الحياة المشابهة لحياتنا وعلي هؤلاء الرجال والنساء الذين نزلوا إلي الشوارع للمطالبة بالتغيير. - خلال زيارتك لمصر هل استطعت أن تستشف ما حدث لاحقا؟ في الحقيقة لا ..إن المصريين كانوا يتحدثون كثيرا عن الفساد وأعتقد أن هذا هو الاساس لما حدث...الناس كانوا يشكون من أن الحكومة كانت تشرع في الكثير من المشروعات الوهمية ولكنها لم تكت تستثمر اية أموال لتحسين حياة الناس ولهذا فقد كان الاشعور بالسخط واضحا..اعطيك مثلا..كانوا يقولون إن الحكومة دأبت علي تغيير بلاط الارصفة كل عامين أو ثلاثة لأن الشركة المنتجة لهذا البلاط مملوكة لاسرة مبارك.. -هذا ما تشرحه في كتابك..ولكن كيف خطر لك أن تزور منطقة مقابر المقطم؟ -في الحقيقة عندما زرت مصر تعرفت علي إيطاليين يعملون هناك ولم يكونوا يعرفون شيئا عن البلد ..لم يكونوا متعايشين مع المصريين ولا يعرفون أية كلمة من اللغة العربية..لو انك عشت ستة أشهر في القاهرة فيجب أن تكون قد تعلمت بضعة كلمات من اللغة العربية.. -هل هذا ما دفعك للخروج من الدائرة المتعارف عليها؟ لا أعرف..لقد سحرني الواقع..لا أستطيع أن أعطيك سببا معينا ..ربما لأنني في صغري قرأت الف ليلة وليلة ..اعترف بأنني فضولي وعندي شغف بالامور السياسية في العالم..في شبابي كنت أتمني أن أغير العالم..ولكن الآن أصبحت علي الاقل أريد أن أفهمه..إن الشغف بمكان يمكن أن يقودك لاكتشاف أمور لا يعرفها أهل المكان أنفسهم.. -الكتاب ترجم لأربع لغات..هل هذا صحيح؟ لقد بدأت في نشر حكايات كايرو بلوز في مجلة توقفت عن الصدور ثم اقترحت علي احدي المؤسسات الثقافية أن أعرضها في معرض في مهرجان البحر المتوسط في انكونا، وفيما بعد اقترحت علي إحدي دور النشر الايطالية أن أكتب رواية وفوجئت عندما تعاقد معي ريكاردو زانيني من دار Edicionesdel Orientey del Mediterráneo لنشر العمل في إسبانيا، ثم تعاقدت مع دار نشر صغيرة أيضا لاصدار العمل في فرنسا ثم مع دار نشر لبنانية.. وهل ستطرح باللغة العربية؟ لقد تمت ترجمتها ولكنها لم تصدر بعد ونحن نعد أيضا كتابا رقميا باللغة الانجليزية.