بعد تفجيرات البيجر، إسرائيل تتوعد حزب الله ب وسائل أخرى    الاتحاد الأوروبي: لن نعترف بسيادة إسرائيل.. من حق فلسطين أن تعيش في سلام وأمن    حرب غزة.. قوات الاحتلال تقتحم مدينة قلقيلية    قراصنة إيرانيون أرسلوا لحملة بايدن مواد مسروقة مرتبطة بترامب    تشكيل برشلونة المتوقع أمام موناكو في دوري أبطال أوروبا.. من يعوض أولمو؟    موجة حارة لمدة 3 أيام.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس اليوم الخميس    أحداث الحلقة 3 من «برغم القانون».. الكشف عن حقيقة زوج إيمان العاصي المُزور    محلل إسرائيلي: حزب الله ارتكب 3 أخطاء قاتلة فتحت الباب أمام الموساد لضربه بقوة    عمرو سعد يُعلن موعد عرض فيلم الغربان ويُعلق: المعركة الأخيرة    كيفية الوضوء لمبتورى القدمين واليدين؟ أمين الفتوى يوضح    خبير: الداخل الإسرائيلي يعيش في حالة زعر مستمر    أيمن موسى يكتب: سيناريوهات غامضة ل«مستقبل روسيا»    الإمارات تخفض سعر الأساس بواقع 50 نقطة    شريف دسوقي: كنت أتمنى أبقى من ضمن كاست "عمر أفندي"    جوميز يحسم مشاركة فتوح أمام الشرطة الكيني    موعد مباراة مانشستر سيتي وأرسنال في الدوري الإنجليزي.. «السيتيزنز» يطارد رقما قياسيا    حقيقة الذكاء الاصطناعي واستهلاك الطاقة    الخارجية الأمريكية ل أحمد موسى: أمريكا مستعدة لتقديم خدمات لحل أزمة سد النهضة    «افتراء وتدليس».. رد ناري من الأزهر للفتوى على اجتزاء كلمة الإمام الطيب باحتفالية المولد النبوي    بالاسم ورقم الجلوس.. نتيجة تنسيق المرحلة الثالثة للقبول بالجامعات (رابط مباشر)    موعد صرف معاشات شهر أكتوبر 2024    الأهلي لم يتسلم درع الدوري المصري حتى الآن.. اعرف السبب    «أنبوبة البوتاجاز» تقفز ل 150جنيهًا    تفاصيل مصرع مُسن في مشاجرة على قطعة أرض في كرداسة    عبير بسيوني تكتب: وزارة الطفل ومدينة لإنقاذ المشردين    "ماتت قبل فرحها".. أهالي الحسينية في الشرقية يشيعون جنازة فتاة توفيت ليلة الحنة    مصدر أمني ينفي انقطاع الكهرباء عن أحد مراكز الإصلاح والتأهيل: "مزاعم إخوانية"    طفرة عمرانية غير مسبوقة واستثمارات ضخمة تشهدها مدينة العاشر من رمضان    عقب تدشينها رسميا، محافظ قنا ونائبه يتابعان فعاليات اليوم الأول من مبادرة "بداية جديدة "    لو عاوز تمشيني أنا موافق.. جلسة حاسمة بين جوميز وصفقة الزمالك الجديدة    آيتن عامر بإطلالة جريئة في أحدث ظهور..والجمهور: "ناوية على إيه" (صور)    دورتموند يكتسح كلوب بروج بثلاثية في دوري الأبطال    بشاير «بداية»| خبز مجانًا وقوافل طبية وتدريب مهني في مبادرة بناء الإنسان    حامد عزالدين يكتب: فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم    الشاب خالد: اشتغلت بائع عصير على الطريق أيام الفقر وتركت المدرسة (فيديو)    «استعلم مجانًا».. نتيجة تنسيق المرحلة الثالثة 2024 علمي وأدبي فور إعلانها رسميًا (رابط متاح)    إيمان كريم تلتقي محافظ الإسكندرية وتؤكد على التعاون بما يخدم قضايا ذوي الإعاقة    تراجع بقيمة 220 جنيهًا.. سعر الحديد والأسمنت الخميس 19 سبتمبر 2024 بعد التحديث الجديد    هل موت الفجأة من علامات الساعة؟ خالد الجندى يجيب    كشف حقيقة فيديو لفتاة تدعي القبض على شقيقها دون وجه حق في الإسكندرية    كيفية تحفيز طفلك وتشجيعه للتركيز على الدراسة    السفر والسياحة يساعدان في إبطاء عملية الشيخوخة    أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد وتخلصه من السموم    بلقطات عفوية.. هنا شيحة تبهر جمهورها في أحدث ظهور لها (صور)    حقيقة عودة إضافة مادة الجيولوجيا لمجموع الثانوية العامة 2025    «طعنها وسلم نفسة».. تفاصيل إصابة سيدة ب21 طعنة علي يد نجل زوجها بالإسماعيلية    صلاح التيجاني: والد خديجة يستغلها لتصفية حسابات بعد فشله في رد زوجته    بخطأ ساذج.. باريس سان جيرمان يفوز على جيرونا في دوري أبطال أوروبا    قمة نهائي 2023 تنتهي بالتعادل بين مانشستر سيتي وإنتر ميلان    عقب تدشينها رسميًا.. محافظ قنا ونائبه يتابعان فعاليات اليوم الأول من مبادرة «بداية جديدة»    نشاطك سيعود تدريجياً.. برج القوس اليوم 19 سبتمبر 2024    الفنانة فاطمة عادل: دورى فى "الارتيست" صغير والنص جميل وكله مشاعر    صحة مطروح تقدم 20 ألف خدمة في أولى أيام المبادرة الرئاسية «بداية جديدة».. صور    محافظ القليوبية يكرم المتفوقين في الشهادات العامة بشبرا الخيمة    عاجل - قرار تاريخي:الاحتياطي الفيدرالي يخفض الفائدة إلى 5.00% لأول مرة منذ سنوات    أسماء جلال جريئة ومريم الخشت برفقة خطيبها..لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    من الأشراف.. ما هو نسب صلاح الدين التيجاني؟    خسوف القمر 2024..بين الظاهرة العلمية والتعاليم الدينية وكل ما تحتاج معرفته عن الصلاة والدعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آلام أخي
نشر في أخبار الأدب يوم 15 - 02 - 2014

صاحبي يقف بعيداً وراء الباب الزجاجي في صالة المطار يبتسم في سعادة وهو يري علي وجهي انبساط وحماس المُسافر.
سيارة سوداء بثلاث عجلات سليمة وعجلتها الرابعة قد تنهار في أية لحظة، تسير علي مهلها في مدق صحراوي تطرقه لأول مرة.
صف طويل من أصحاب الحقائب الكبيرة ينتظرون مرحلة وزن الحقائب، ترتسم علي وجوههم كل المشاعر إلا التبلد.
خرجت السيارة من المدينة قبل يوم، مُحملة بالعيال والأم، تشق طريقها إلي مهرب "ويك إند" جديد حكي عنه الناس كلاماً كثيراً رائعاً.
وزنوا الحقيبة الوحيدة بعد أن فتشوها جيداً وعاينوا ما بها من عبوات قد تحتوي علي سوائل وتأكدوا من خلوها من الأسلحة والمواد الخطرة.
صاحبي ما زال هناك بعيداً يراني، مبتسم، واقف لا يتحرك، أعرف ويعرف هو أنه أدي واجب توصيل الناس للمطار ويمكنه الانصراف الآن لكنه ما زال هناك يبتسم وأنا فخور، معتد باللحظة أكافئ نفسي بها.
السيارة السوداء تدق علي الأرض الترابية.. دب دب دب دب.. حركة غير مألوفة، من فوق لتحت، بعيدة عن طريقها المسفلت الذي لا تعرف غيره، لا مكان لها هنا.
صاحبي يأخذ كل ما يقدر عليه من بهجة يراها في إحساسي الجديد بعد كل ما حمّلته من ألم وهموم، وهو يقدّر بكل نُبل أنني عندما أدير ظهري للحياة اليومية تبدأ الحياة.
وقفوا، بعد أن تجاوزت السيارة السوداء المدق الصحراوي، أسرة واحدة ضعيفة كضعف أصغر أفرادها الطفلة بنت العامين لا أكثر، علي حافة الشلال يلتقطون الصور التذكارية.
هذه الأرض موحشة، موحشة، موحشة، ليس لوحشتها مثيل.. أفق واسع بلا حدود تتخلله هالة ضبابية كالسديم غير واضحة المصدر، موحشة لأقصي حد.
لم أعد أري صاحبي، لكن مؤكد أنه ما زال هناك يتابعني بعينيه أو يتابع المكان الذي أقف فيه، من وراء زجاج صالة المسافرين الخارجي في المطار، في انتظار أن أظهر في مرمي عينيه مرة أخري. هو أخي، هو أخي.
التقطوا الصور علي الشاطئ، والخلفية صحراء، وجاء أحد أبناء المكان، ممن يرتزقون من السياح العابرين، يلتقط لهم الصور كمجموعة واحدة، وحدة عبارة عن أسرة، بعد أن قالت له الأم الصخرة: ما تدي الموبايل للناس اللي هناك دول يصورونا. لكنه تردد، فهم يلتقطون لأنفسهم الصور، زوار مثلهم، وهو في انتظار انتهائهم، فقالت له: كل حاجة لك كده تعملها موضوع يا ساتر! فجاء الرجل ابن المكان فأعطاه موبايله الحديث ليصورهم صوراً جماعية تفنن فيها صاحبنا وتبين أنه خبير في موضوع تصوير العابرين من علي هذا الشاطئ ويعرف جميع أنواع الموبايلات ويتقن التصوير بها جميعاً.
صاحبي خرج وأنا لا أعرف، وأنا ما زلت في طابور خلع الأحذية والحزام وكل ما في الجيوب من معادن، قبل صالة انتظار الطائرة، ووقف في الخارج وأشعل سيجارة وفاضت عيناه بدمعتين علي سبيل التوجع لي، أنا، أنا أخوه.
انتهي المصور ابن المكان من التصوير فأعطيته خمسة جنيه وتمنع لكن صممت: معلش.. الشاي.
اللغة أصبحت مراوغة، والخرس فضيلة التائهين. أمسكت الموبيل وصورتهم »العيال وزوجتي« صورة أخيرة.
واهتز نسيج المشهد الذي تصوره الصورة، سمعت أصواتاً متتابعة، بق بق بق بق، أصوات مكتومة تعلن عن نفسها مطمئنة واثقة، واهتز نسيج المشهد وظهروا أحبائي في الصورة مشوهين، ولم أفكر لحظتها في شيء عابر كهذا وإن تشاءمت، وضبطت الموبايل مرة أخري لألتقط صورة أخري لكن حدث الشيء نفسه، نسيج المشهد مشوه. أتعرف عندما "يسف" الشريط في الكاسيت؟ كذلك سف نسيج المشهد كما تراه كاميرا الموبايل بالضبط، ولا أعرف إن كانت المشكلة في الكاميرا أم في المشهد ذاته فأنا كنت أنظر إلي المشهد من وراء عدسة الكاميرا وفي الحقيقة لا أراه بعيني، حقاً لا أراه.
حملتني الطائرة إلي مطار بعيد، يقع علي أطراف مدينة كبيرة في بلد أجنبي نظيف.
تركت هناك أخي، نعم هو أخي، تركته هناك وراء الحاجز الزجاجي وتذكرت فجأة وأنا أخرج من المطار المذكور إلي الهواء الأجنبي، أنني تركت هناك أخي وراء الحاجز الزجاجي.
بعد الانتهاء من عملية التصوير مضينا كما اتفق إلي أقرب مكان من حيث تقف السيارة، نظرت في قلق إلي العجلة التي خشيت أن تنهار منّي في الصحراء ووجدتها ما زالت متماسكة فجلستُ وجَلسَت ومضت الصغيرة تلعب في الرمل الرطب وأخوها الكبير ينفخ في مصاصة وجدها علي الأرض، يملأ طرفها رملاً وينفخ فيطير الرمل، يلعبان بالرمل، ومن ورائنا رأيت الرجل الذي قام بعملية التصوير وأخذ الخمسة جنيه يقول لآخر يشبهه ضاحكاً: "الطلقة من دول بعشرة جنيه والله ما يصح كده، يخرب بيوتهم". ويضحك، يتكلم عن الرصاص ويضحك.. بق بق بق بق، أصوات مكتومة متلاحقة تأخذ وتيرة الكلاشنكوف.
بعد الخروج من المطار وتدخين السيجارة الأولي منذ نصف يوم في الهواء الجديد الأجنبي، قصدت شبكة مترو المطار الداخلية ومنها بعد تعليمات وإرشادات كثيرة منثورة هنا وهناك في عملية معقدة، نقطة معينة في المدينة الأجنبية أعرفها كظهر يدي ولم أرها من قبل.
صاحبي واقف في مشهده وراء الزجاج، لن أسامح نفسي أبداً علي ذلك الحال المبهج الحزين ولن أذكره لأحد، لن أعرّف به بشر، سآخذه معي إلي القبر ذات يوم.
وأيقنت أن ذلك الصوت المكتوم غير المفهوم هو رصاص، وتبين من كلام من يرتزقون في المكان داخل هذه الصحراء الموحشة أن هذا رصاص، ورأيت سيارتين، محملة إحداهما بالرجال، والأخري لا أري من بها، عند أفق الصحراء البعيد، وعيون أهل المكان ولا يزيدون عن سبعة أفراد، رجال ونساء وأطفال، تتابع تلك الحركة، والأم جالسة إلي جواري تشرب الينسون في بطء وأنا أتململ والخرس يحاصرني كما تحاصر كل هذه القسوة صوت الرصاص المتناثر هناك من بعيد وولدي يلعب وابنتي تلعب، يلعبان في الرمل، ولا أحد غيري »من بيننا نحن« مُدرك لما يحدث وراء ظهرنا علي مرمي البصر ولابد أن ننتهي من شُرب الينسون والشاي سريعاً ونأخذ علبة العصير التي لم يشربها الولد معنا إلي السيارة السوداء ونتحرك من هنا في ظرف دقائق قليلة، وقمنا نهرول ووقفت أمام باب السيارة وقد سبقتهم بخطوات أنتظرهم في توتر تخيلت أنه خفي، مع صوت الرصاص، حتي يدخلوا السيارة وأنا حزين لأنني سبقتهم هذه الخطوات، سبقتهم خطوات، سبقتهم بخطوات.
حسب كل شيء في دِقة متناهية. متوسط الدخل السنوي والشهري لأبناء الطبقة الوسطي في هذه المدينة الأجنبية، وفي هذه المنطقة منها، وفي هذا الحي الذي لا يزيد عرضه وطوله عن عدة شوارع متقاطعة. رسم في ذهنه بوضوح بالغ كيف سيتمكن من تحصيل دخل أبناء الطبقة الوسطي هنا في هذه الشوارع تحديداً دون غيرها، وحسب ما يدفعون من ضرائب وإيجارات ومصاريف، وأطلع أم الولد والبنت في سرور علي ما توفره المدارس المجانية هنا من تعليم رائع مقارنة بالعالم الثالث الذي كانا يجلسان داخل شقة داخل حي داخل مدينة في بلد من بلاده يتصفحان ويبحثان ويقارنان كل شيء ذات أهمية عن ذلك العالم الموازي.
أخذتهم جميعاً، الثلاثة، إلي السيارة السوداء، وعيون أهل المكان الموحش ثابتة علي مطاردة السيارتين عند الأفق داخل الصحراء لا يبالون وكأنهم يتفرجون علي مباراة كرة شراب، وفي تقديري أن المدق الذي يخرج بنا من هنا لا يمر علي حيث يطلقون الرصاص، وما زالوا لا يعرفون بالرصاص وأنا أعرف، وأنا أعرف. جريت بسرعة معقولة، خائف علي العجلة الموشكة علي الانهيار، علي امتداد الشاطئ ثم أصبح في ظهري الشاطئ وأمامي المدق، دخلت إليه وبدأت أمشي ورأت هي علي بُعد، السيارة المُحملة بالرجال تجري في قلب الصحراء تتجه إلي مسار المدق المرسوم، تطارد علي ما يبدو سيارة أخري متمرسة قادرة علي هذه الطُرق المقفرة، انفتح باب سيارة من الاثنين علي بُعد ورأت، حسب ما رأيت في عينيها، إنساناً يتدلي من باب السيارة الماضية مسرعة، ورأيت أنا ولم تر هي، رأيت أطولاً معدنية غير واضحة المعالم في أيدي الرجال، علي هذه المسافة غير البعيدة، وسمعنا صوتين، بق، طك، كأصبعين يطرقعان عند هذه الأذن مرة ثم عند تلك مرة، هكذا، بين الصوتين نصف
ثانية، وعرفنا أنه الرصاص في الخلاء، الرصاص، والبنت
ف ثانية، وعرفنا أنه الرصاص في الخلاء، الرصاص، والبنت علي حجرها والولد في الكنبة الخلفية، وعرفنا أنه رصاص ولم يعرف العيال أو عرفا فهدأت أصواتهما. هكذا أمامنا، ونحن داخل هذه السيارة السوداء التي لا تعرف سوي الأسفلت، امتداد بيتنا خارج البيت، ونحن الذين يبلغ ضعفنا مقدار وهن الطفلة بنت العامين وهي تنادي في الليل وسط حلم بأصوات واهنة ونسمعها من حجرة أخري ونتقلب وننتظر أن تعود لنومها حتي الصباح، هكذا في قلب هذه الوحشة نري بأعيننا هؤلاء في مطاردة بالكلاشنكوف وأسلحة تبدو من بعيد أطوالاً حديدية مُشرعة في الهواء لا تبالي بالعابرين أو قد توقفهم كما تشاء، فلها إرادة ولهم إرادة وهي نافذة علي العابرين، فنادت علي اسمي، وتقلص وجهها في تسليم وقالت دون أن تنظر إليّ أن أدور من حيث جئت، وكنت بالفعل أدور في هدوء علي المدق عائداً إلي حيث جئت متسللاً قبل أن يرانا الرصاص ويسأل من نكون، وقابلت في طريق العودة إلي الشاطئ موتوسيكل يقترب وقال أحد راكبيه، بعد أن قالت هي لي: "لأ، لأ، هتعمل أيه؟ بلاش تتكلم معاهم امشي علي طول" وليس خلفنا سوي الخطر وليس أمامنا سوي شاطئ لا يؤدي إلي شيء، وقال أحد راكبي الموتوسيكل وقد عرفت عندما اقترب أنه من أهل المكان الذين رأيتهم منذ دقائق تحت عند الشاطئ، إنهما قد جاءا ليرجعانا "عشان فيه قلق فوق، ارجعوا تحت شوية ليفتكروكم طالعين عليهم ولا حاجة"، ومضينا إلي قلب الوحشة، إلي نقطة علي مسافة أمتار من حيث وقفنا نلتقط الصور التذكارية ومضي الموتوسيكل براكبيه الاثنين إلي نقطة لا أعرف مدي قربها من الرصاص وسمعت بعد دقيقة الموتوسيكل يعود ليس عليه سوي راكب واحد معلناً أن فلاناً قد مات، خد رصاصة، مات.
منذ زمن لم يمش مسافات طويلة هكذا، عضلات ساقيه لا يشعر بها ولا تؤلمه، رأسه خفيف، صاحبه وراء الزجاج في المطار، رحلة الطائرة الطويلة، الخروج من الجوازات إلي العالم الأجنبي، رحلة التاكسي إلي هنا، وقفته بالحقيبة الواحدة في الشارع للحظة يلتقط أنفاسه، منظر النهر هناك وعليه كباري الحديد القادرة، وخلف النهر الأبراج العالية، وهنا حي الطبقة الوسطي الذي اختاره بعناية ودقة مستقراً نهائياً للراحة، مبانٍ عادية تشبه المباني في مدينته المليئة بالأسفلت، قرر أنها مثلها، وأنها ليست موحشة، وأنه يعرف هذا المكان جيداً، وإن كان رغم زياراته العديدة لهذه البلاد الأجنبية فهو لم يطأ هذا الحي، بعد أن وطأ أسفلت المدينة حياً حياً بلا كلل أياماً طويلة متواصلة في كل زيارة في نهم بلا حدود، لكنه كان قد قرر في الزيارات السابقة أنه لا يريد هذا الحي ولن يدخله ولن تقع عيناه عليه، وهنا الآن يعاينه ويعرف أنه يعرفه منذ زمن وأن عالماً جديداً ينفتح من هنا بدليل رائحة هذا الهواء الأجنبي.
لكن لماذا تضيق عليه المباني وتقترب؟ لماذا أيقن فجأة أنها زيارة عابرة؟
وقف أهل المكان ينظرون إلينا، سمعوا منذ لحظة أن فلاناً قد مات، وبكت هي في صمت، ترتعش، العيال لا يعرفان أو قررا أن أسلم حل هو الاستمرار في اللعب، ناولت الولد شيكولاته طلبها في إلحاح، وأخبرته أن عليه أكلها بسرعة قبل أن تراها أخته وتتشاجر معه، وابتسمت في وجهه وابتسمت في وجه أخته وابتسمت في وجه أمهما وقلت "متخافيش ملناش دعوة"، وأكل الولد الشيكولاته بسرعة فأخذت منه الورقة دستها في جيبي، ثم رميتها علي الأرض، وقال لنا الناس إن الموضوع لا يخصنا، وأن هؤلاء "بينهم مشكلة بيخلصوها لكن ما هيجوش هنا" "ملناش دعوة بهم" وكانوا يعرفون من هؤلاء، وراحت الموتوسيكلات وجاءت كثيرة تقل شباناً، وحضرت ورحلت سيارة ميكروباص صغيرة تقلّ رجالاً، ووقفنا أمام الترابيزات المتواضعة ودعانا شخص يدير المكان للجلوس فلم أعرف هل يقصد أن نجلس لنطلب مشروبات، أم نجلس لنرتاح، ولم أعرف هل نتجه إلي مكان قريب من الشاطئ أكثر فنبتعد عن الرصاص؟ وهل الرصاص المار من هنا قادر علي أن يدخل عالمنا علي ضآلة صوته في هذا الخواء؟ والولد والبنت قصيران يلعبان وسط قوائم الترابيزات الخشب وهذا أهم شيء، والعجلة الموشكة علي الانهيار ما زالت متماسكة، ونصحنا أهل المكان أن "خليكو هنا شوية علي ما الموضوع دوا يخلص متخافوش متخافوش".
وسيدة تجلس علي الأرض تهيل التراب علي رأسها في هدوء وحذر حتي لا يسمعها العابرون فينفرون من هذا المكان الذي يرتزقون منه، تبكي ولدها الذي كان يركب الموتسيكل منذ قليل وقبلها كان قد أعدّ لنا الشاي والينسون وجلب علبة العصير للولد، للولد. والرجال والصبية من حولها يخفون توترهم في تمكّن وخبرة، وهم يبتسمون في وجوهنا مرتاحين، ويتبادلون الكلام ولا أعرف هل نطمئن إليهم؟ وهل هاجس أننا هنا رهائن تقدير سليم؟ أليس هنا سوي الوحشة؟
- ده مات؟ ده بيقولوا مات!
- بُص يا أستاذ، عشان عيالك قل للمدام متعيطش، متخافوش متخافوش، مش هيحصل لنا حاجة، الموضوع ده عادي بيحصل ساعات وبيقعدوا يدبوا في بعض بالساعة والساعتين هناك كده زي ما أنت شايف وبنروح عادي..
- يا عم مصلحة أهو لو اتضرب الأتوبيس ناخد التأمين، هههه، ستميت ألف جنيه.
- يا أستاذ بقولك عادي، الدنيا هتعرف دلوقت وهتيجي الحكومة تظبط الدنيا، إحنا مبلغين وإحنا داخلين من برّه بعدد الناس اللي معانا وجنسياتهم، وأهم زي ما أنت شايف هناك أهو ميعرفوش حاجة بيتصوروا وعايشين البليلة، ههههه، ولا في بالهم، نازلين زحلقة علي الرمل ومليطة، طمّن الجماعة والعيال بس.
- أقولك؟ هات عربيتك أركنها جنب أتوبيساتنا هناك، أربع أتوبيسات أهو هناك شايفها؟ دخّلها وسطهم وأقعدوا جوا العربية وكملوا معانا اليوم هيتقضي زي ما يتقضي ومش هنسيبكم غير لما نطمّن عليكم علي الطريق السريع برّه.
- أنت يا جدع أنت وهو (صوت من سيارة تقترب من بعيد) خدوا الأتوبيسات دي بسرعة ودوها الناحية التانية لغاية ما أقولكم تحركوها تاني، قوموا!
قال لنفسه إن أجمل ما في الرحلة الطويلة هو أن ينأي الواحد بنفسه تماماً عن فكرة الخضوع للحصار، أي حصار، أن يضطر لارتياد نفس الأماكن مرتين يومياً مثلاً، أو أن يضطر للبقاء في مكان واحد لسبب خارج عن إرادته مثلاً، أو أن تجبره ظروف معينة علي أن تطول به إجازة وقد عقد العزم بوضوح وبشكل قاطع علي أن يعود في لحظة يقدرها لنفسه، فيدرك بعدها أنه مضطر للبقاء لسبب خارج عن إرادته في مكان الإجازة، أو أن تطول زيارته للأهل لسبب خارج عن إرادته، أو أن يحاصره كل هذا الخلاء في صحراء لا يربطها بالعالم المُعاش غير مدق صحراوي ضيق هو مسرح الآن لكل ذلك الرصاص وأخبار الموت علي مسافة أمتار مثلاً.
وكان صاحبي، أخي أخي، يقف وراء الزجاج وأنا داخل صالة المطار يستأنس بسعادتي التي يراها في عينيّ بعد أن حاصرته بألمي لفترات طويلة لا أبالي بألمه.
طمأنني أحد السائقين، الذين جاءوا قبلنا بقليل صباحاً في رحلة إلي هنا تقل شباباً جامعياً، أن الطريق قد أصبح آمناً، ولم أر في عينيه هذا الاطمئنان. قررت أن العجلة شبه المنهارة قد لا تحتمل الانتظار، وأيقنت أن حصار هذا الخلاء هو أسوأ ما يمكن أن يحدث وأن كل دقيقة تمر محسوبة علينا جميعاً، محسوبة علي البنت، محسوبة علي الولد. خرجنا بالسيارة مرة أخري إلي المدق في حذر، هي، ترتعش إلي جواري، تقترب من الانتفاض، تسيطر علي نفسها كالمعجزة، وأنا لا أشعر بشيء، عيني علي الطريق، رأت من بعيد سيارة من الاثنين، والأخري واقفة ورائها كطائر ميت، ورجلان هنا، ورجل هناك. نقطة الخطر تعلن عن نفسها صريحة، أهذا صوت رصاص؟ قبل أن تقولها أدرت مقود السيارة وعدنا مرة أخري، نزلنا المدق إلي الشاطئ، وقفنا مع الأتوبيسات، بدأ الشباب في التوافد علي الأتوبيسات إلي مرحلة الرحلة الترفيهية الثانية بعد التزلج علي الرمل، لا يعرفون شيئاً، ليس علي وجوههم أدني قلق، ونحن في السيارة بين أتوبيسين وهم يركبون في بطء قاتل، يجمعون أنفسهم ويتبادلون كلمات لا علاقة لها بالخطر ويصعدون إلي مقاعدهم في اطمئنان. أخي أسعده لحظة إفلاتي من الحصار وعبّر عن سعادته بلا مواربة. لا أتكلم كثيراً لكنه يعرف، يجلس معي ويتكلم وأتكلم أنا لكنه يعرف ما أسكت عنه ويعطيني سيجارة ويقرب يده بالولاعة وننفخ الدخان وتنظر عيوننا إلي الأرض ونفكر في المخرج. في المحاولة الثالثة وبعد تطمينات عديدة وبعد التوتر الذي ظهر في وجوه أهل المكان دليلاً علي أن لحظة الخطر عبرت وأنه ليس عيباً الآن أن تظهر علي عيونهم المشاعر المُخزّنة، قررنا أن المحاولة الثالثة للخروج إلي المدق لعبور الصحراء قد حانت وأنه لا يمكن قضاء اليوم هنا مع الأتوبيسات حتي يحين موعد عودتها بشبابها الذي قرر أنه في رحلة. قالت للولد أن ينام علي الكنبة الخلفية، وأنزلت البنت علي حجرها ونزلت برأسها قليلاً ومضيت أنظر أمامي إلي حيث جثث السيارتين بطلتا المطاردة هناك، وثلاثة رجال يقفون علي طرف المدق، وأصوات الرصاص كفّت منذ دقائق تماماً، ورأيت أنا ورأت هي أن هناك أملاً في السلامة، ومضينا وعبرنا في خرس إلي جوار نقطة الخطر ولم نطل النظر إليها حتي لا ترانا والولد نام وغرق في النوم والبنت سكتت (- طيب خلي المدام والعيال يركبوا معانا الأتوبيس وأنت أمشي ورانا، قضوا معانا اليوم متخافوش أهي فسحة. تنزلوا تركبوا معاهم الأتوبيس؟ أمان عن العربية »ونسيبك لوحدك؟ لأ إحنا معاك « طيب يا ماما)
- وكانت تتمتم بكلمات لا أسمعها وتحرك يدها علي رأس البنت وكان الطريق ما زال طويلاً حتي الأسفلت، حيث ينتهي المدق، والصحراء كبيرة علي الجانبين، خالية بيضاء والأمل كالهاجس البعيد علي الحافة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.