بوتين: زيادة المدفوعات بالعملات الوطنية يقلل من المخاطر الجيوسياسية    الزمالك يعلن رسميا المشاركة فى نهائي السوبر المصري    افتتاح مقر جديد ل «الجوازات» بالمجمع الأمني في القاهرة الجديدة    تعامد الشمس على معبد أبوسمبل| ظاهرة فلكية مدهشة تجذب آلاف السياح    بعد «برغم القانون».. محمد القس: لهذا السبب أبتعد عن دراما رمضان 2025| حوار    دَخْلَكْ يا طير «السنوار»!    البورصات الأوروبية تغلق منخفضة مع ترقب تحركات الفائدة    لياو يقود تشكيل ميلان ضد كلوب بروج في دوري أبطال أوروبا    350 ألف غرامة| إيقاف حارس الأهلي السابق 4 أشهر    وزارة المالية تعلن موعد صرف مرتبات شهر أكتوبر 2024 للعاملين بالدولة    «دفاع النواب» توافق على مشروع قانون «لجوء الأجانب».. وإنشاء لجنة دائمة تتبع مجلس الوزراء    حابس الشروف: مقتل قائد اللواء 401 أثر في نفسية جنود الاحتلال الإسرائيلي    فيلم "المستريحة" ينهي 90% من مشاهد التصوير    نتنياهو: بحثت مع بلينكن ضرورة وحدة الصف فى مواجهة التهديد الإيرانى    أمين الفتوى بدار الإفتاء: الصبر أهم مفاتيح تربية الأبناء والتخلص من القلق    فساد تطعيمات السحائى لطلاب المدارس؟.. "الصحة" ترد علي الفيديو المتداول    بلاغ للنائب العام.. أول رد من الصحة على مروجي فيديو فساد التطعيمات    منافس بيراميدز - بعد تعادلين في الدوري.. الترجي يعلن رحيل مدربه البرتغالي    أمين الفتوى: النية الصادقة تفتح أبواب الرحمة والبركة في الأبناء    قطار صحافة الدقهلية وصل إدارة الجمالية التعليمية لتقييم مسابقتى البرنامج والحديث الإذاعى    إعادة تنظيم ضوابط توريق الحقوق المالية الناشئة عن مزاولة التمويل غير المصرفي    صفة ملابس الإحرام للرجل والمرأة.. تعرف عليها    باحث سياسي: الاحتلال أرجع غزة عشرات السنوات للوراء    محافظ أسوان يتفقد مشروع إنشاء قصر الثقافة الجديد في أبو سمبل    صور من كواليس مسلسل "وتر حساس" قبل عرضه على شاشة "ON"    هبة عوف: خراب بيوت كثيرة بسبب فهم خاطئ لأحكام الشرع    صلاح البجيرمي يكتب: الشعب وانتصارات أكتوبر 73    وصول عدد من الخيول المشتركة فى بطولة مصر الدولية للفروسية    مساعد وزير الصحة: تنفيذ شراكات ناجحة مع منظمات المجتمع المدني في مختلف المحافظات    النائب العام يلتقي نظيره الإسباني لبحث التعاون المشترك    أزمة نفسية تدفع سائقا للقفز في مياه النيل بالوراق    ولى العهد السعودى وملك الأردن يبحثان تطورات الأوضاع بمنطقة الشرق الأوسط    ظل كلوب يخيم على مواجهة ليفربول ولايبزيج    بعد تصريحات السيسي.. الحكومة تطلب من "صندوق النقد" مد أجل تنفيذ إصلاحات البرنامج الاقتصادي    غادة عبدالرحيم: الاستثمار في بناء الإنسان وتعزيز الابتكار أهم ما تناولته جلسات مؤتمر السكان    «سترة نجاة ذكية وإنذار مبكر بالكوارث».. طالبان بجامعة حلوان يتفوقان في مسابقة دبي    وزير التعليم العالي: بنك المعرفة ساهم في تقدم مصر 12 مركزًا على مؤشر «Scimago»    ذوي الهمم في عيون الجامع الأزهر.. حلقة جديدة من اللقاء الفقهي الأسبوعي    بعد التحرش بطالبات مدرسة.. رسالة مهمة من النيابة الإدارية للطالبات (تفاصيل)    «القومي للطفولة والأمومة»: السجن 10 سنوات عقوبة المشاركة في جريمة ختان الإناث    مقابل 3 ملايين جنيه.. أسرة الشوبكي تتصالح رسميا مع أحمد فتوح    وزيرة التضامن ب«المؤتمر العالمي للسكان»: لدينا برامج وسياسات قوية لرعاية كبار السن    السجن المشدد 6 سنوات ل عامل يتاجر فى المخدرات بأسيوط    رئيس "نقل النواب" يستعرض مشروع قانون إنشاء ميناء جاف جديد بالعاشر من رمضان    كوريا الشمالية تنفي إرسال قوات لروسيا لمساعدتها في حربها ضد أوكرانيا    حقيقة إلغاء حفل مي فاروق بمهرجان الموسيقي العربية في دورته ال32    فيفي عبده تتصدر تريند جوجل بسبب فيديو دعم فلسطين ( شاهد )    حيلة ذكية من هاريس لكسر ترامب في سباق الرئاسة الأمريكية.. النساء كلمة السر    الريان ضد الأهلي.. الراقى يحقق أقوى انطلاقة آسيوية بالعلامة الكاملة    الرئيس الإندونيسي يستقبل الأزهري ويشيد بالعلاقات التاريخية بين البلدين    الاعتماد والرقابة الصحية تنظم ورشة عمل للتعريف بمعايير السلامة لوحدات ومراكز الرعاية الأولية    وزير الزراعة يطلق مشروع إطار الإدارة المستدامة للمبيدات في مصر    نائب وزير المالية: «الإطار الموازني متوسط المدى» أحد الإصلاحات الجادة فى إدارة المالية العامة    انعقاد مجلس التعليم والطلاب بجامعة قناة السويس    تفاصيل جلسة حسين لبيب مع رئيس اتحاد الكرة بشأن نهائي كأس السوبر المصري    مواعيد صرف مرتبات أكتوبر، نوفمبر، وديسمبر 2024 لموظفي الجهاز الإداري للدولة    مصرع طفل سقط من الطابق الثانى بمنزله بالشرقية    «إنت مش مارادونا».. مدحت شلبي يهاجم نجم الزمالك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جودة خليفة:الفنان في ذاكراه
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 10 - 2013

بخلاف أرشيفه في مجلة أكتوبر لن تجد الكثير عن الفنان الراحل جودة خليفة، فلم يكن معنياً مثل كثير من الفنانين، وهو الزاهد في الحياة، بتوثيق أعماله وجمعها، لم يكن معنياً بالثناء علي ما يقوم به، وعلي العكس تماماً كان يصدر للأصدقاء والزملاء والغرباء سخريته من كل شيء. كان كل شيء صغيراً وزائلاً بالنسبة له، لم يكن يبحث عن الخلود، ولكنه بشخصيته العظيمة وأعماله الرائعة استطاع أن يحفر اسمه في قلوب الجميع. علي مستوي الفن زينت أعماله عدداً كبيراً من المجلات والكتب. كان في فترة ما "كواليتي" خاصاً، يمنح العمل الأدبي قيمة مضاعفة، بخطوطه المتصلة المبهجة، وقدرته علي النفاذ، والتصوير بأبسط تكوينات الرصاص والألوان. كان تصويره لوجه ما يمثل إضافة لصاحبه، فهو القادر علي أن يمسك بروح الشخص، وإبرازها في ملامح الوجه، وعلي سبيل المثال تحولت أيقوناته إلي علامات مميزة علي أغلفة أخبار الأدب، خصوصاً الأعداد التي كانت تضم ملفات عن أعظم الأدباء والفنانين المصريين والعرب علي مر العصور.
جودة خليفة الإنسان كان ساخراً كبيراً، هل كان فوضوياً؟ بالتأكيد، لم يكن يعرف نظاماً خاصاً، ولم يكن يحسب خطواته، ولم يكن ليتحسب لمستقبل، أو لطارئ ما؟ كانت لديه قدرة عظيمة علي مباغتتك بكلماته اللازعة، وإجبارك علي الاعتراف بالهزيمة. إن لم تعجبك كلماته ولم تضحك بسببها، سيضحك هو تقديراً لما يقوله ولن ينتظر إعلانك الهزيمة، لأنه انتصر قبل أن يواجهك، ورغم ذلك لا يمكن أبداً أن تشعر ناحيته بضغينة، هو الشخص المتخلي، والبسيط، والذي يقرأ عملك مرتين أو ثلاثاً ليجسده في لوحة فاتنة تُشعرك بأنك فعلت شيئاً جيداً.
ولد جودة خليفة في يناير 1936، ومات في سبتمبر 2000. وما بين ميلاده ووفاته كانت روحه هائمة. كان يظهر ليختفي. أقرب بمجذوب يتركك أحياناً في منتصف كلامك، شخص سمع صوت النداهة. كان ينتمي إلي الشارع، لا يكل من المسير، ولو كنت ترافقه وبينكما فارق ثلاثين عاماً ستشعر بأنك أنت العجوز وهو الشاب. رحل جودة خليفة وترك اسماً يستحق أن يكون بجوار عظماء الفنانين، والإنسانية. كلما حاولت الكتابة عن الفنان جودة خليفة أو "عم جودة" كما اعتدت مناداته - أتوه بينما أبحث عن طرف خيط للبدء منه. الذكريات كثيرة، والحكايات الصغيرة أكثر، والتفاصيل والمواقف المشتركة بدلاً من أن تقودني لما أريد قوله أجدني أتعثر فيها وأنا أخطو في دروب الذاكرة.
كنت أظن أن ثراء شخصيته وحضوره العاصف والملهم في آن هما ما يتحديان القدرة علي اختزالهما في كلمات. وهو ظن سليم يضاف إليه سبب كان كامناً ولم أنتبه إليه إلاّ عندما بدأت في استحضار عم جودة عبر الكتابة، وهو أني شئت أم أبيت سأكون حاضرة في أي نص أكتبه عنه، سيكون ملوناً بذاتية مفرطة أتحاشاها وأهرب منها، والسبب في هذا أن صداقتي معه أو بالأحري أبوته المعنوية لي كانت في مساحة الشخصي والذاتي أكثر منها في العملي والإبداعي. الأمر الثالث هو أن فكرة الكتابة عنه، عنت بالنسبة لي تأبينه والاعتراف بموته.
فعلي منوال مقولة جان جاك روسو "الحرف يميت"، لطالما شعرت أن تحويل "عم جودة خليفة" بكل حيويته وإقباله علي الحياة والآخرين إلي حروف وكلمات هو حصر له في مساحة ميتة مهما بلغ عنفوان اللغة التي تقاربه.
بالنسبة لي هو ما يزال يمارس هوايته في المشي في مكان ما غير مرئي، في مصادقة الطرق والعيش فيها كأنها بيته البديل ومحور وجوده. من أراد لحياته أن تكون سلسلة من المشاوير المتتالية، كأن المشي هو غايته في الحياة ووسيلته للتوازن والانسجام مع العالم، لا يمكنه الكف عنه، وإذا كانت جنة كل منا تُرسم علي مقاس أحلامه وتفضيلاته لكانت جنة عم جودة مدينة عامرة بالطرقات كي يتاح له المشي فيها كما يشاء.
فرغم أنه وُلِد في ريف الشرقية وانتقل للقاهرة للدراسة والعمل إلاّ أن المدينة بتشابكها تلائمه أكثر. في حالته يتلاشي التصنيف المعتاد في تقسيم البشر إلي أبناء ريف وأبناء مدن، فقد كان ابناً للطريق أي طريق وكل طريق.
لم يكن يتكلم معي عن قريته التي جاء منها إلاّ لماماً، جمل عابرة ناتئة وسط حدوتة شائقة يحكيها فتبدو تلك القرية كأنما خارج عالمه، ويبدو لي كشخص يصعب حصره في مكان ضيق. في المقابل كان يجد نفسه في ساحات المدينة وأزقتها فلا تشك للحظة أنه غريب عنها، ناسبته المدينة أكثر لأنها أتاحت له التجول والتوحد بالطرقات محروساً بالحرية التي تتيحها المدن الكبيرة للسائرين في دروبها وبين حناياها.. في مدينة كبيرة كالقاهرة كان يمكنه أن يطوف ويجول كما يحلو له. يعبر الأشياء والمعالم وتعبره. يصافحها سريعاً منتقلاً إلي غيرها بكامل حريته وانطلاقه دونما التزام تجاه شيء معين أو مكان بعينه. لا يملك شيئاً فلا يملكه شيء.
أفكر الآن أن علاقتنا بالمشي والطرقات »علي اختلافها« هي ما جمع بيننا.
كنا في أواخر التسعينيات عندما تعرفت عليه لأول مرة، وقتها كان المشي في شوارع القاهرة هو هوايتي الأولي، تسكع يمتد لساعات تقطعه جلسات قصيرة في محطة أتوبيس أتأمل خلالها المنتظرين والمارة، أو ركوب أتوبيس لا تهمني وجهته الأخيرة بقدر ما أهتم بأن يكفل لي مساره أكبر قدر ممكن من مناظر وتفاصيل متنوعة أختزنها كجمل يخزن الماء والدهون الفائضة عن حاجته.
باختصار كنت أتسكع بلا وجهة محددة، كأنني فقط أرسم بخطوتي خارطة المدينة التي أريدها، وأحفر لنفسي موطئ قدم فيها في الوقت نفسه، بينما كان مشيه هو أقرب لطقس صوفي هو فيه شيخ الطريقة والدرويش معاً. كان يسير في مدينة يحفظها عن ظهر قلب وله في كل ركن فيها مكان وصحبة، مدينة تكف في حالته عن أن تكون عدة مدن في واحدة، وتصبح بحجم راحة اليد. في يوم واحد ينتقل من وسط البلد لمصر الجديدة، ومن "حوش قدم" إلي الزمالك، قبل أن يعود إلي مسكنه في مدينة نصر. كان يتوقف فجأة ليسألني: "عايزة تشوفي ريف في وسط البلد؟"، أو "تعرفي أقدم شخص بيبع فوانيس في القاهرة؟". قد يحكي حكاية كازينو "تريومف"، أو مطعم "الأمفتريون"، أو يقترح أن يعرفني علي المثَّال التلقائي محمود اللبّان، أو يمنحني مجلد أعمال فنان الكاريكاتير حجازي بإهداء خاص من حجازي. وقد يفاجئني بأعمال لابن عربي والنفري والتوحيدي مشددا علي أهمية القراءة لهم. وحين أشكره يغضب قائلاً إنه لا يفعل أكثر مما فعل أمثال أحمد بهاء الدين وحسن فؤاد مع جيله.

عندما كنت أواظب علي السير في طرقات القاهرة وحدي، لم أكن أعرف أن "عم جودة" ربما كان يمشي في الوقت عينه في الشوارع نفسها التي أمر بها، وأن خطوتي قد تكون تقاطعت مع خطوته في مفترق طرق ما قبل أن نتعارف.
أثناء دراستي الجامعية، كنت أصادف رسوماته علي أغلفة "أخبار الأدب" أو صفحاتها الداخلية من وقت لآخر، كما علي أغلفة وصفحات مجلات غيرها. زميلي في كلية "الإعلام"، وليد رشاد، كان يحكي عنه باستمرار باعتباره قريباً له، ولوحاته الداخلية في إحدي مجموعات محمد البساطي القصصية صارت جزءاً أساسياً من تلقي نصوصها بالنسبة لي.
ثم قابلته في مجلة "الأهرام العربي" حين كنت أتدرب في قسمها الثقافي تحت إشراف الكاتبة الصحفية ماجدة الجندي. ما أتذكره عن هذا اللقاء أن حضور "عم جودة" التلقائي المناقض لمزاج "الأهرام" المتحفظ والرسمي قد أضفي علي المكان حيوية وصخبا نادرين فعلت الضحكات وعمّ جو احتفالي تحول فيه الكلام، مجرد الكلام، إلي فن ينافس الفنون الإبداعية الأخري.
قيل لي يومها إنه ينسي أسماء من يتعرف عليهم حديثاً لأنه مكتفٍ بصداقاته القديمة، يقابل الجميع بمحبة كأنها موجهة إلي الكون بكامله لا إلي هذا الشخص بعينه، وفي هذه الحالة من يحتاج إلي الأسماء؟
بمصادفة بحتة رأيته في ميدان الألفي بعدها بيومين وتحدثنا لبعض الوقت في أحد المقاهي هناك، لكن المعرفة لم تبدأ في التعمق إلاّ حين جمعتنا جلسة ضمت كثيرين في مقهي معرض الكتاب، يومها كان النقاش حامياً حول من يكتب التاريخ والتبسيط المخل في مقاربة حركات وتحولات تاريخية مهمة، وكان هو يتابع في المساحة الفاصلة بين الاهتمام والضجر دون أن يتخلي عن دعاباته وملاحظاته الذكية.
مع تخرجي في الجامعة وبداية بحثي عن عمل كانت معرفتي بعم جودة قد توثقت لدرجة أصبح معها أبي الروحي وأثق أنه كان كذلك لآخرين ممن كانوا محظوظين كفاية للتعرف عليه عن قرب. فإضافة إلي نبله وكرمه علي المستوي الإنساني، وموهبته وإخلاصه كفنان، كان موسوعة تسير علي قدمين، أتاحت له تجاربه الإطلاع علي خبرات يصعب توافرها في شخص واحد، خبرات لم يكن يبخل بها علي من يحتاجها دون أن يقوم بدور الناصح أو الواعظ الممل.
حين عملت في التلفزيون المصري لشهور في أواخر التسعينيات، كنت أتجه، ما إن أغادر مبني ماسبيرو، إلي مقر عمل "عم جودة" في مجلة أكتوبر التي لا تبعد عن ماسبيرو سوي خطوات. مشوار شبه يومي حرصت عليه، ننطلق بعده للمشي في شوارع القاهرة، دائما ما كان يسبقني بخطوات ثم يتوقف منتظراً إياي فيما أسرع للحاق به. ثمة دوماً مهام كان عليه الانتهاء منها قبل التفرغ للسير باستغراق من يؤدي طقسا روحيا: تصوير رسوماته الجديدة، ثم المرور ببعض المجلات والجرائد لتسليم لوحات مطلوبة منه أو للقاء أصدقاء له. معه لا أبواب مغلقة الكل يتهلل فرحاً برؤيته، وهو يوزع سخريته وضحكاته متحدياً أي أحزان أو آلام محتملة. كان يسير محاطاً بحب كل من يعرفونه علي اختلاف شخصياتهم وطباعهم، ربما لأنه لا يضع نفسه في موضع الصراع مع أحد. كان زاهداً فيما يتصارع الآخرون عليه، يكفيه أن يرسم كما يحب، وأن يترك نفسه للتجوال الحر في الشوارع والجلوس في مقاهي لا حصر لها، يشرب شايه، ويتبادل الحديث مع مرافقين يدهشك أن بعضهم يراه للمرة الأولي ومع هذا يعاملهم كأصدقاء عمر، وينهي كلامه ب"لازمة" قلما تتغير: "بس خلاص"!
هل أضيف إنه كان يحتقر المال والنجاح؟ لا أعتقد أن "يحتقر" هي الكلمة الملائمة، فالاحتقار يتطلب درجة ما من الاهتمام، وهو لم يكن يكترث بكل ما يلهث الجميع خلفه. أتذكر أني طالبته مراراً بإقامة معرض لرسوماته الصحفية، فيرد بضحكة أكاد أسمعها بينما أكتب هذه السطور، ضحكة طويلة تقع علي أذني كسؤال مضمر: معرض مرة واحدة، ليه؟! لحظتها أوقن أني لن أجد جواباً يقنعه.
"انجحي بالتقسيط، نحن في بلد يؤذيه أن ينجح أحد"! كان يقول من وقت لآخر، فأسأله، وكنت لم أنشر سوي قصص متفرقة: وهل يتحكم أحد في نجاحه من عدمه؟!
فيحكي حكايات سريعة تشرح نصيحته وتفصلها.

لقائي الأخير بعم جودة كان في مستشفي السلام الدولي، حين ذهبت مع الزميلين محمد شعير وحسن عبد الموجود لزيارته قبل وفاته بوقت قليل. هناك كان متعباً وضجراً، وخُيل لي أن علاجه يكمن في الانطلاق مجدداً في شوارع المدينة وميادينها هرباً من شبح المرض الخبيث وتحدياً له.
مشاهد عديدة تتتالي علي ذهني حين أتذكره الآن، شذرات متفرقة أشبه بوعد مخاتل بكتابات قادمة عن فنان وإنسان استثنائي أدين له بالكثير.
إزيك يا بابّو!
رحاب جودة خليفة
لن يصدقني احد إذا قلت أنني كنت أهرب من كتابة هذا الموضوع بل وبدأت بعض الأعراض المرضية تظهر علي كلما حاولت البدء فيه كأنني أهرب من المذاكرة والامتحان. كلما كتبت حرفا يغالبني النوم أوأشعر بالإرهاق الشديد أوأتذكر أنني مشغولة بأشياء أخري أو أظل جالسة بدون حراك أفكر فيما سأكتب ولا أعرف من أين أبدأه. رغم أنه من المفترض أن يكون أمتع ما كتبت لكنه أيضا الأصعب علي الإطلاق. ليس لأنني لا أعرف شيئا عما سأكتب عنه بل لأنني أعرفه جيدا! أو ربما لا أعرفه حقا!
ولكل الناس الذين عرفوه هو جودة خليفه الفنان والرسام وصاحب الريشة المتميزة وملك الحوار الجذاب والطرافة و"القفشة" الذكية أو "عمو جودة" كما كان يطلقون عليه حتي السيدات اللواتي يكبرنه سنا، وهن بالذات! وهو كان يطلق علي الجميع "يا واد" أو "يابت" بما في ذلك أيضا السيدات اللواتي في نفس مرحلته العمرية أو أكبر. أما أنا فكان بالنسبة لي "بابّو". بكل بساطة. فلم أشعر يوما أنه ذلك الوالد المسيطر والمهاب. وكان في مرحلة من عمري بمثابة صديقي الوحيد وفي أوقات أخري مثل كيس الرمل الذي أفرغ فيه تخبطي مع الدنيا الجديدة علي أو غضب أمي منه الذي تبثني إياه. وإذا كان الجميع رأوا فيه جانب واحد فأنا كنت أعيش مع جوانب عديدة استطعت ان أفهم بعضها ولم استطع استيعاب الكثير منها حتي الآن. ليس لأنه كان شخصا غامضا بل لأنه كان في الحقيقة.. العكس تماما. كان منفتحا ومنطلقا مع نفسه ومع كل الناس. كان يمارس ويعيش كل ما أغدقت عليه كل المشاعر والصفات الإنسانية كلها من أحاسيس وطباع. كان يعيش بسجيته بكل ما تحمله الكلمة. يرفض الضغوط ولا يستجيب أبدا لأي شيء لا يتوافق مع هواه. لكنه في نفس الوقت لم يكن يريد شيئا من هذه الدنيا سوي الهواء الطلق وكوب شاي.
ولهذه الأسباب بالذات لم أكن أعلم في كثير من الأحيان بماذا أشعر تجاهه. فهو بالنسبة لي ليس ذلك الشخص الموهوب صاحب ال"قعدة الحلوة" الذي أراه لبعض الوقت. إنه الأب الذي كان يجب أن يكون جزءا من الآباء الذين نراهم في التلفزيون أو ما كانت أمي أن تريده أن يصبح عليه. فهو الفنان الجميل المحبوب الذي طالما افتخرت وسآظل دائما افتخر به في كل مكان وخاصة في الوسط الصحفي الذي أعمل به. فكلما يذكر اسمه تظهر علامات الارتياح والسعادة والذكريات الجميلة وكأن الأبواب ستفتح لي لأطلب ما أشاء إرضاء لذكراه الطيبة وأيامه الحلوة وحبه للجميع دون استثناء. صحيح أنني استمتعت كثيرا بصداقته وشعوري بالحرية معه، علي عكس الراحلة أمي. وصحيح أنني سأظل دائما فخورة بأنني ابنته التي تنتمي إلي تلك الجينات الغنية بخفة الدم والقدرة العجيبة والفريدة علي التواؤم مع ظروف الحياة والطباع المثيرة للأعصاب لكثير من البشر بهدوء وأحيانا بتفهم وتعاطف أو استسلام في أحيان اخري. صحيح أيضا أنني مازلت انظر بإعجاب شديد لما قد تقع عليه يدي بالصدفة البحتة من رسومات له في تلك الصحيفة أو ذلك الكتاب كأي معجب آخر بالرسم والفن التشكيلي. فمنزله كان المقر الوحيد الذي لم يكن يضم أعماله! وإذا بحثت، ستجد أعماله في الكثير من المطبوعات ولدي الكثير من زملائه وأصدقائه الذين انتشلوها من المطابع أو من الطاولة التي كان يرسم عليها لأنه، كما قلت سابقا، لم يتحمل الضغوط ولم يأبه أن يجمع أعماله ويرهق أعصابه بالحفاظ عليها وضمها فيما بعد في معرض أو كتاب. فالفن للجميع كما أنه يستطيع أن يرسم أكثر من ذلك في أي وقت يشاء ولم ير أبدا ما رآه الجميع من أنه كان يصنع عن حق تحفا فنية، حسب رؤيته. لكم أن تتصوروا مدي شعوري بالإحراج عندما طلب مني صور شخصية له أو لوحات لأنه ببساطة ليس لدي شيء يذكر له ومعظم صوره الشخصية لم تظهره بوضوح لأنه كان لا يحب التصوير أو يتحمل، مجددا، ان يضغط عليه أحد ويطالبه بالوقوف ثابتا في وضع معين لبعض ثوان لالتقاط صورة! تماما كما يرفض ارتداء ساعة ويلتزم بوقت أو موعد. وكان الوحيد في العصر الحديث وفي المدينة الذي يحدد موعدا لأحد قائلا " بعد الظهر أو بعد العشا" او ماشابه. ويالتالي قد لا يكلف نفسه بتذكر الموعد أو الحضور في الموعد أو في مساحة الوقت المطاطة التي يقولها لكل الناس. وحتي عندما شعر بالمرض اللعين الذي فتك به ظل رافضا الإفصاح عن الأعراض لشهور عديدة حتي لا يقع تحت ضغوط يفرضها أطباء ونظام محدد. لم يكن يبالي. لم يكن يبالي علي الإطلاق تقريبا بأي شيء في هذه الدنيا.
ولأننا كنا أصدقاء، فقد كان يهتم لأمري ...في بعض الأحيان...وقتما يشاء وليس كما يجب أن يفعل أي أب عليه ان يتحمل المسئولية ويقوم ببعض الواجبات تجاه أسرته. كان ذلك الأب طفلا كبيرا بمعني الكلمة يفعل ما يحب في الوقت الذي يحبه فقط وإذا شعر بضغط من شخص يتركه علي الفور. تماما كما كان يفعل مع أمي عندما كانت تضيق عليه الخناق وتطالبه بتوفير بعض الالتزامات لأسرته فكان نصيبها محاولة تهدئتها ببعض الكلمات وترك المنزل لساعات طويلة وأحيانا لأيام.
طبعا من سيقرأ هذه الكلمات سيقول إنها لشخص صاحب أفق ضيق لم يقدر حجم الموهبة والقلب الأبيض كالملاك التي كان يعيش معها. احتمال.. ولكنني والله لم أنس ولم أستهن. لكن قلبي يتمزق كلما رأيت إحدي رسوماته وريشته الرائعة التي تأخذك إلي عالم آخر وساحر وتخرجك من هذا العالم الكئيب بكل سهولة. قلبي يتمزق لأنه هو الذي استهان ولم يقدر حجم الحياة التي منحت له ومن يستحقون اهتمامه بهم. صحيح ان ذكراك الطيبة يا حبيبي لا يمحوها الزمن لكن لماذا لم تترك لي تلك اللوحة أو تلك "الشخبطة" لأتامل فيها وأجدد حيويتي واعيد ثقتي بالحياة؟ لماذا لم تأخذ بيدي في يوم من الأيام لتعلمني الرسم أو تقربني بشكل أكبر من عالم الفن التشكيلي؟ لماذا لم تكن في البيت عندما كنت أحتاجك؟ لماذا لم تتذكر أن لك مكانا كان يستحق منك البقاء فيه والاهتمام به لوقت أطول من كوب الشاي؟ لماذا لم تقربني منك كابنة لك وليس كأي شخص يسير بجانبك؟ والله يا حبيبي كان بإمكانك أن تكون أحلي لوحة في مصر والعالم كله أيضا لا ينافسها فان جوخ ولا رينوار ولا دالي أو غيره. أقول إيه...صحيح وحشتني بس الله يرحمك يا بابّو!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.