لدي الأقدار نوع من الصدفة المدهشة.. قد يكون لها معني.. وقد تكون لها دلالة.. غير أن حدوثها يذهلك ويجعلك تشخص ببصر عقلك.. تقلبها في فؤادك.. وتديرها في روحك.. وقد تلهمك.. وقد تعجزك.. ولكنها لا تمر دون أن تكون قد أملت عليك الدرس.. وما أكثر دروس الحياة. مات لمعي.. ومات طارق.. وبين عمريهما ما لا يقل عن 35 سنة.. الأول أستاذ الثاني.. والثاني كان يوقر الأول.. لمعي مسيحي أريب.. وطارق مسلم متوقد.. المخضرم مات بأمراض الشيخوخة.. والشاب مات بحصار السرطان.. جمعتهما "روزاليوسف".. وفرقتهما الأيام.. وجاء الموت ليعيد التوحد.. فقد لحق طارق بعم لمعي بعد أسبوعين من وفاته. ولمعي، فنان عظيم، له بصمة في أغلبية صحف مصر التي تصدر الآن، أبدع رءوس مختلف الجرائد: المصري اليوم، الفجر، صوت الأمة، نهضة مصر، الدستور. وبعضًا مما لا أذكره.. قاله لي قبل أن يرحل بأسابيع.. خطاط من النوع النادر.. ذواق أنف لديه كبرياء مهني رائع.. معجون بخبرة عريقة وحس فني لا يمكنه هو شخصيا أن يصفه. كنت أجلس أمامه في القسم الفني في "روزاليوسف" تدهشني صنعة يديه منذ منتصف الثمانينيات وكثير من سنوات التسعينيات.. يصف ريشاته.. ويضع أمامه محبرته.. ويخرج أفرخ الورق الأبيض.. بعضها من نوع "الفبريانو".. ويبدأ في رسم الكلمات كما لو أنه ينحتها متقمصًا روح خطاطين عظماء.. وفنانين كبار.. ويبدو أمامك كما لو أنه مايكل أنجلو في مهمة رسم سقف الكنيسة الشهيرة.. ويا سلام عليه حين كان يكتب آية قرآنية. يخرج سكين القطر الحاد، ويبري خشب الريشة مما علق به من شظايا، وينفخ الأتربة، ويواصل الإبداع وفق قواعد أصيلة.. ويمضي في إغراق الحضور بالكلام.. كما لو أن كلامه هذا هو الأسطوانة الموسيقية التي يسمعها أثناء الإبداع. دخل عليه طارق ذات يوم.. شاب متقافز.. هو في الوقت ذاته شقيق صحفي ثقافي معروف في الأهرام.. الدكتور مصطفي عبدالغني.. يحمل حقيبة مكدسة بالأوراق والمشروعات والأحلام والأماني.. جاء إليه ليتعلم.. حيث لم يكن الخط موجودًا في أي مؤسسة أخري تقريبًا.. بعد أن دهست فنونه تطورات التكنولوجيا.. وهجوم طباعة الأوفست والفوتوكومبوسينج.. ومن بعدها اكتساح برامج الكمبيوتر وتنويعات الناشر المكتبي والناشر الصحفي. جاء طارق في وقت متأخر.. التكنولوجيا قررت أنه لا مستقبل للمهنة التي يريدها.. تعلم الكثير من لمعي.. وكان القبطي العتيد يلقنه بتأفف من نزق الصغار.. دون أن يوفر حنانه ورعايته وخبرته.. وكان طارق يتقافز في الحياة وعلي الورق.. معبرًا عن شخصية تناقض مهنة تعتمد علي الإيقاع الرتيب إلي حد الملل.. ملل إن لم تحبه خنقك. وقد أحبه طارق حينا.. وهرب منه حينا آخر.. وبعد أن امتلك أدواته ذاب في جنبات الحياة يلاحق أمانيه.. ويطارد قدره. وبعد سنوات قليلة نفدت إمكانية استيعاب لمعي فهيم في المكان.. القوانين هجمت عليه بسن التقاعد.. والتطور حاصره بإعلانات متجددة أن مهنته إلي زوال.. لكنه كان معبأ بالطاقة.. أبدع عشرات من عناوين الكتب.. وقضي حتي آخر عمره وقتًا في جريدة نهضة مصر.. وقبل أشهر أبدع لجريدة "روزاليوسف" خطًا خاصًا لعناوينها ينتظر عمليات البرمجة الإلكترونية لكي يستخدم علي الصفحات. وبعد أن أنهي هذه المهمة التي لم تكن مخططة.. مات. قدس الله روحه. كنت ألحظ ما فعله العمر فيه.. قبضته لم تزل عفية.. لكن بصره لا يمكنه أن يلاحق أصابعه.. ومثانته تزعجه بآلام تكلفه مبالغ مالية طائلة لشراء الأدوية.. كنت أداعبه بأن عليه أن يتزوج ثانية.. ويذهب بنا الحديث إلي بضع قفشات جنسية خليعة.. ولعلي كنت بهذا أمارس عليه بعض المكر لكي أهرب من سقف أسعاره التي أوهمته أنها عالية.. لكنه لم يكن يقع في الفخ.. ولم يكن يستسلم للفصال.. وكان يأخذ ما يريد بقوة تقديره لما يستحق. ولم أنتبه إلي أنه حين عاد لمعي للظهور في مسار الحياة كان أن ظهر طارق.. لا أعرف ما الذي ذكره بي.. لم يعد قادرًا علي التقافز الذي ميزه.. كان يرقد مريضا بين بيته ومستشفي معهد ناصر.. يكابد سرطان الرئة.. أرسل إلي مستعينا.. لست أدري لماذا وثق في أنني سوف أستطيع.. وكانت طلباته بسيطة ولكنها صعبة في دهاليز البيروقراطية.. قرارات علاج.. وتوصيات في المستشفي. كنت أسمع من حين إلي آخر عن أحواله الصعبة.. والجراحات المتتالية.. أسمع فقط.. فأنا أفر من مشاهد المرض كلما أمكنني ذلك.. خاصة إذا كان المريض عزيزا علي الروح.. ومن أبناء العمر.. لكنه قبل أسبوعين قرر أن يضعني أمام نفسي ونفسه.. وكان قاسيا أنني كنت أعرف أنه كاد يغلق قصته مع الحياة.. وأنه لا أمل سوي الدعاء بأن يقوي علي مواجهة الألم الفظيع. جاء صوته متقطعا.. ليس بسبب سوء خدمة الموبايل.. ولكن بسبب حالته المتدهورة.. يقول كلمة ثم تسمع صوت أنفاسه اللاهثة.. وقال لي: إنه يريد أن يقوم بأي عمل.. فوعدته بما كنت أدرك أنه لن تكون هناك فرصة لتحقيقه.. وأدهشني أن روحه تصر علي التقافز حتي اللحظة الأخيرة.. إلي أن قفزت للمرة الأخيرة.. قفزة إلي الجانب الآخر.. إلي حيث لا عودة. رحم الله طارق. الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى: [email protected]