»ربما لا يعرف كثيرون من هي سلوي حجازي، وخاصة من ولدوا في عام رحيلها وربما – أيضا- لا يعرف من عرفها كمذيعة في التليفزيون، أنها كانت شاعرة كبيرة، نعم كانت سلوي حجازي شاعرة كبيرة غير أنها لم تكن تكتب شعرها باللغة العربية، بل كانت تكتبه باللغة الفرنسية، وأصدرت في حياتها ديوانين شعريين هما: »ظلال وضوء» و"أيام بلا نهاية"، ويحتوي هذا الكتاب علي ترجمة للديوانين كاملين. كما كتبت سلوي حجازي قصصاً للأطفال مثل: »شجرة الياسمين و"عصفور الصباح"، وتركت ديوانين مخطوطين هما »إطلالة و"سماح» ولم يعثر عليهما أحد بعد وفاتها. حصلت سلوي حجازي علي جوائز أدبية من فرنسا، لم يحصل عليها شعراء فرنسيو الأصل، فقد أهدتها الأكاديمية الفرنسية ميدالية ذهبية في مجال الشعر وذلك عام 1964. ونالت ميدالية ذهبية أخري في مسابقة الشعر الفرنسي الدولية. كانت سلوي حجازي قد ولدت 1 يناير عام 1933 واشتهرت كمذيعة للعديد من البرامج أشهرها برنامج الأطفال الشهير »عصافير الجنة» وقد كتب النقاد الفرنسيون دراسات نقدية عن أشعارها، وكرمها بيت الشعر الفرنسي في أسبوع ربيع الشعراء في ستينات القرن الماضي. كتب عنها الشاعر صالح جودت كتاباً سماه »سلوي الشعر، الحب، الموت»، كما شارك كل من الشاعرين أحمد رامي، وكامل الشناوي في ترجمة قصائد من ديوانها »ظلال وضوء» من الفرنسية إلي العربية أما رحيلها فكان إثر حادث تفجير طائرة عام 1973». جاءت هذه الكلمات في بداية هذا الكتاب الضخم الذي يتضمن ترجمة كاملة لشعر الشاعرة الراحلة والمذيعة التليفزيونية سلوي حجازي للمترجم الشاعر عاطف محمد عبد المجيد يتضمن الكتاب ترجمة ديواني »ظلال وضوء» و"ديوان أيام بلا نهاية»، وصدر الكتاب مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. وتمثل هذه الترجمة عطاء وميراث سلوي حجازي الشعري بما يمثله من قيم وتجربة شعرية تنبيء بشاعرة حقيقية، فضلت العيش في محيط ضيق ونافذة لا تطل إلا علي عوالم لا يراها سواها ملأت هذه العوالم بأخيلة تموج فيها رائحة الحدائق والربيع والزهور تتغني بالإنسان وتنشد له الخير وتجعل من نشيد الطفولة أغنيتها الباقية والنداء الدائم. ابتعدت في كتابتها الشعر عن لغتها الأم »العربية» وفضلت أن تجعل شعرها يصدح في العالم كله عندما كتبت شعرها بالفرنسية وأبقت علي إطلالتها كمذيعة لها جمهورها ومشاهدوها بابتسامة معهودة وروح كلها أمل وسعادة، رأت في الشعر مجالاً رحباً وأفقاً للتحليق، وجعلت من أسفارها تجارب ذاتية لشعرها. تمتاز أشعار سلوي حجازي بالسهولة والبساطة مقترنة مع كل ما هو إنساني. عاشت سنواتها الأخيرة تتعذب عذابا نفسيا مكبوتا رغم ابتسامتها الحلوة علي الشاشة. كانت تحس أنها ستموت في زهرة العمر، وأنها ستموت في كارثة، وأنها ستترك صغارها وحيدين. كما قال الشاعر صالح جودت في كتابه عنها. وفي المقدمة التي كتبها الشاعر أحمد رامي للطبعة الفرنسية من ديوانها »ظلال وضوء» يقول: »لو أن الشاعرة سلوي حجازي صاحبة هذا الديوان قد صورت علي هيئة الطير، لكانت بلبلا يرفرف علي غصن ندي، مرسلا أغنية يطرب لها الظل والماء. ولو أن لهذه الطائفة من الشعر نسخة مسموعة، لطرب من يصغي إلي هذا البلبل، لبدع توقيعه وحسن ترجيعه. هذه هي الصورة التي أراها للشاعرة، كلما سمعت منها قطعة من الشعر صاغتها من صميم وجدانها، وصبغتها بألوان خواطرها، ورددتها علي وقع خفقات القلوب. ويضيف رامي في مطلع حديثه عن هذا الديوان: في هذا الديوان شعر ينبجس من قلب رقيق، وينحدر من ينبوع روح صافية. وهو شعر عاطفي الي أبعد الحدود، يتناول أغراضا تمس كل نفس، وتسري في كل روح، ويكاد يهجس بها كل خاطر، وهو شعر يجلو الحياة بأبهي مظاهرها، من جمال يشيع في كل ركن، وضياء يبسم في كل ظل، وهو شعر يصف من ينعم في هذه الحياة باجتماع شمل، أو رفاهة عيش، ويصور كذلك من يشقي بها من لوعة فراق أو من طيف شقاء. وشعرها صادق في تصويره، حسن في تعبيره، ينبع من نفسها فيصل إلي كل نفس، وينطلق من فيها فيسكن حبة كل قلب. تري بعد هذا التحليق مع رامي من خلال قراءته لهذا الديوان الذي تناول فيه رؤيته لحس الشاعرة ورأي فيه كل صنوف الجمال وصوره، اطلاع رامي علي الفرنسية وقراءته للشعر الفرنسي وشعرائه مثل شعر سلوي حجازي المكتوب بالفرنسية أنه يفوق جمالا وصدق تجربة أكثر من هؤلاء الشعراء، رأي في شعر سلوي حجازي صورة جمالية تفتن النفس وتجعلها تأنس مع تجاربها ومع هذا التحليق في فضاءات علوية. في مطلع ديوانها الأول »أيام بلا نهاية» تهدي سلوي حجازي قصائد هذا الديوان إلي من يزينون حياة الأحلام وإلي من بالأفكار يثرونها في إشارة منها إلي أن الكلمات التالية هي مجال خصب للتحليق في دنيا من الأحلام مع روح شاعرة تأخذهم إلي عالم رحب ملئ بالزهور تحلم معهم بعيدا عن غبار الحياة إذا كان ليس بالمقدور التغير إلي الأجمل. تقول الشاعرة: ساعة أن... يزعجني العالم ولا أستطيع أن أغيره... أنطوي علي نفسي وأجعلني أ ح ل م »أيام بلا نهاية ص 11» وفي العالم الفسيح تتسع رؤية الشاعرة وحقائق الأشياء تنبئ بفرحتها عندما تري الطبيعة في عطائها الحقيقي، وتبصر تفتح الأزهار مع مقدم فصل الربيع. في هذه القصيدة »سواك» تتغني الشاعرة بالربيع كأنه عرس لا ينتهي، رؤية الشاعرة للجمال الذي تراه في كل الحدائق عبر أخيلة تموج بروائح الأزهار ورؤية اليمامات البيضاء فوق الأشجار وسرد لمشاهد هي من روعتها تنبئ بروحها الطوافة، ورغم فتنة الربيع ومدارك هذه البهجة تبقي روح عصية وأحزان مازالت تحتوي الشاعرة بعدها عن الوطن لا يستطيع الربيع بكل هالاته وتفتح أزهاره وصوره أن ينسي الشاعرة حبها وحنينها للوطن وبعدها عنه. تقول الشاعرة: أوه هذا حقيقي هو ذا الربيع الذي يهل رغم الزهور التي تبكي فوق الأغصان رغم الدموع الأسيرة المليئة بالصمت. نعم... هذا حقيقي إنها رائحة أشجار البرتقال نعم إنه سرب يمامات بيضاء توشي الأغصان المضيئة التي تتمايل. نعم إنه الربيع لكنني لم أحلم به طالما لم يستطع أن يبهجني كما يفعل كل عام فالهواء مثقل بالأريج... ومثقل بالكآبة قلبي. إنه حنيني الذي يتكرر إلي الوطن. »قصيدة سواك. ص19,18,17. في محاكاتها وتأثرها الشديد بقصيدة الشاعر الفرنسي أراجون قصيدة »معاق»، هذا الشاعر الذي عرف بمواقفه في قضايا الشعوب وسعيها نحو الحرية التي تنبئ عن حس الشاعرة وارتباطها بالإنسانية، وتأثرها بفكر هذا الشاعر وتقديرها لدفاعه عن الحق والعدل. تقول الشاعرة مخاطبة أراجون "أراجون زميلي العزيز أراجون أبتغي أن تكون قد تخطيتني في"حسرة" لقد صرخت قائلا: ربيعنا أن نكون معا» في مايو 1940 في قصيدتك »معاق» التي كنت أبتغي أن أكون أول من يحس بها الوحيدة التي تكتبها أبتغي أن ينحني الناس أمام تأوهي كالزهور التي تبكي فوق الأغصان دموعا أسيرة مليئة بالصمت» »قصيدة سواك ص19, 20» رؤية الشاعرة للحرية وتطلعها إلي عالم حر طليق، عالم يشدو بكل القيم الإنسانية، هكذا كان إحساس الشاعرة وهكذا جاءت تجربتها. في قصيدتها »العصفور الغريب» تصور الشاعرة هذا العصفور الحبيس الذي يملك الطيران، ولكن هو حبيس القفص ، تعجزه الحركة فلا يقدر أن يغادر هذه النقطة. هو في حديقة ملئت بالأزهار ولكن هو يفتقد الحرية. ولعل الرسالة التي عبرت عنها الشاعرة عبر كلمات هذه القصيدة عجز الإنسان عن رؤية الجمال وهو حبيس نفسه، عاجز عن الرؤية مشلول الإرادة وهذا لا تريده الشاعرة وتقف ضده. جاءت بالعصفور كرمز لهذا السعي ساردة بأسلوب شاعري وكلمات في غاية التصوير محاولاته إلي الحرية هروبا من سجنه الأزلي: »القفص مفتوح لكن العصفور لم يعد قادرا علي الطيران لديه أجنحة دائماً لكنه... يشعر أنه مشلول القفص مفتوح فيما يلمح العصفور الحدائق الصغيرة يشتهي خضرتها لكنه... لا يقدر أن يلمسها »قصيدة العصفور الغريب ص23, 24» تعددت أسفار الشاعرة سلوي حجازي واتخذت من جغرافيا الأماكن التي زارتها مجالاً تكتب فيه قصيدتها. عبر معجم خاص امتلأ بألفاظ رصينة، وخيال فيه من البعد والتحليق الخيال الواسع الممتد عبر تخوم ومفردات كثرت فيها مظاهر الطبيعة. في العديد من قصائدها ذكرت الشاعرة أسماء البلاد التي زارتها، وتأثرت بمعالمها وتاريخها، شاهدت من خلال عين المبدعة مظاهر الجمال في هذه البلاد، ذكرت القطار ومن نوافذه شاهدت عطاء الطبيعة وروعة الخلق، كتبت عنه قصائد »من القطار» و"داخل القطار» ثم »من القطار فجرا» وتحدثت عن الفضاء السماوي وذكرت الطائرة ورؤية الشاعرة إلي العالم من خلال أفق بعيد كطائر دائما يتغني بصعوده وطيرانه. في قصيدتها »مشهد طبيعي في سراييفو» تبصر الشاعرة حزن هذه المدينة، التي لم تر فيها إلا المقابر رغم وجود هذه الحدائق الخضراء، تحيط بهذا المشهد، وكأنه تنبؤ بمصير سوف يأتي من آلة حرب شريرة: الموتي قرب الأحياء يتحاورون في العشب الأخضر »مشهد طبيعي من سراييفو ص96» أحبت الشاعرة الأطفال وتغنت بالأمومة، وظلت طوال حياتها تقدم برنامج »عصافير الجنة» طوال فترة الستينات، ملتفة حولها الأطفال، ومغردة معهم، تزرع بداخلهم الحنين وتسقيهم من محبتها، تجمع حولها أطفال العالم العربي، ببساطة واستشراف الشاعرة، لذلك جاءت بعض قصائد هذا الكتاب حبا للطفولة وشدوا بها، وفي هذه القصيدة »صغيري قال لي»: تصوغ الشاعرة قصيدتها من خلال حوار بين ابن وأمه، يتمني الابن ألا تكبر أمه وتظل كما يراها زهرة يانعة، وهي مهارة وصدق تجربة، وأخيلة من واقع هذا النداء الإنساني، بروحها الطوافة المرحة، وفي لفتة إنسانية عالية تصوغ المشهد بمهارة وتبدع قصيدتها بأسلوب صادق وكلمات تحاكي الوجدان: أمي أمي لا تكبري في السن لأنك لو كبرت ذات يوم لاقتلعت كل شعرك الأبيض وألقيت به في وجه الريح كيما تظلين دائما أمي الرائعة... » صغيري قال لي ص139, 140» وفي قصيدة »برعمي» تنادي الشاعرة طفلتها، التي كبرت أمامها, وأصبح هذا البرعم زهرة ندية، إحساس الأم العالمي وارتباطها مع هذا النمو، ومشاهدة التغير الذي طرأ، علي ابنتها لا تصدق أنها يوما ما كانت بذرة ترعاها وتحنو عليها، إنها الإنسانية جسدتها الشاعرة في أرق صورها وأصدقها. بالأمس كنت طفلة لكنك اليوم لم تعودي كذلك أنا فيك هذي التحولات لا أستطيع أن أصدق عيني المنبهرتين حيث أنك كنت ذات يوم داخل جسدي كبذرة داخل ثمرتها... ويمتد الحديث عن شعورها الصادق بالإنسانية، وهو حس الشاعرة وشعورها بأطفال العالم في الدول النامية، وتعاطفها معهم، في قصيدتها »الجوع» تحدث صغيرها وتخبره باحتياج هؤلاء الأطفال الفقراء إلي الطعام فلا يجدونه: لا تعبس يا صغيري كل أي فتات واحمد الله علي تقديمه لنا هذه المأدبة واعلم أنه في أماكن أخري ثمة أطفال مثلك يمتصون أثداء أمهاتهم حتي الدم أو.... يأكلون حشائش الحقول أو.... يموت الواحد منهم قائلا: أنا جائع يا أمي. »قصيدة الجوع ص141و142» إحساس الشاعرة بالرحيل كما قال الشاعر صالح جودت جعلها تكتب هذه القصيدة التي تودع فيها صغارها، وهي رسالة إلي كل الصغار رسالة تقطر محبة صافية وحنينا إليهم، هؤلاء الذين مثلت لهم الشاعرة أما تحضنهم جميعا، استشراف الشعر وآفاقه البعيدة، جعل الشاعرة ترسل هذه الرسالة مصورة فيها الفراق وباكية عليه، لنضع أنفسنا أمام شاعرة عاشت بصدق، وتغنت بكل قيم الخير والمحبة والرحمة أيضا: تقول الشاعرة: تصبحون علي خير تصبحون علي خير يا أعزائي الصغار فأنا لا أدري هل سأكون غدا لا أدري هل سأكون هنا غدا لا أدري هل سنكون معا؟ تصبحون علي خير يا أعزائي الصغار فالعالم يدور يدور... وكأنه دوامة... »قصيدة نم...نم..ص143و144» هكذا هو الشعر وتلك هي رؤيته، وها هي سلوي حجازي الشاعرة، التي أبدعت هذه الكلمات، التي لم ير فيها جمهورها سوي إطلالتها عليهم كمذيعة، لكن عطاءها في الشعر اقتصر علي حياة الشاعرة وعزلتها فيه. لعل من هذا الكتاب كما يشير مترجمه الي العربية الشاعر عاطف محمد عبد المجيد يكتشف قراؤه شاعرة كبيرة بحجم سلوي حجازي وروحها، ويظل الكتاب برهانا علي أي عمل جيد، سيظل ينتظر من ينفض عنه تراب الزمن مهما طال الانتظار، وأن يأخذ حقه من الذيوع والانتشار، مادام يمتلك مقاييس الجودة والإبداع الحقيقي.