بوابة شموس نيوز – خاص الشاعر يحترق في ديوان طلوع العصافير للشاعر عمارة إبراهيم ……. ما معني أن يكتب الشاعر قصيدة؟ لا يساورني في ذلك شك،أنه -أي الشاعر-وهو بصدد كتابته للقصيدة،إنما يلوذ بالشعر،ويحتمي به من عوامل الزمن وهي تعمل جاهدة علي النيل من بهائه،وافنائه من علي هذه الأرض. إنه يحاول أن يقبض علي لحظته الإنسانية قبل أن تنفلت من بين يديه،يحاول أن يقبض علي هذه اللحظة وهي في أوج تحققها،وأتم اكتمالها،إنه -باختصار-يريد أن يقبض علي هذه اللحظة التي تشبه الفرح،قبل أن ينغمس في حزنه الأبدي المقيم،لمثل هذا المعني تحدث"أمل دنقل"قائلا:أيها الشعر:أيها الفرح المختلس!. والشعر -علي كل حال-هو الربيع الدائم بالنسبة للشاعر،ذلك الربيع الذي يتسرب كذلك بفعل الزمن. يقول أدونيس :"قال الربيع"حتي أنا في كل ثانية أضيعها-أضيع!، والشعر أحوال الشاعر بها ومن خلالها محنة الآنية العاجلة،ومسؤلياته الوجودية الآجلة "الشعر أحوال "وكل محنة قصيدة!،هكذا تحدث "بدر توفيق"وتحدث"مشهور فواز"عن ذلك الشاعر الذي يشبه الفراشة وهي تقترب من النار لتعاين جمال زوالها لحظة الاحتراق قائلا:"ماذا قالت حين اندست في النار فراشة:قالت لي..اكتشف الآن جمال زوالي!،إنه الشعر ذلك اللهب الذي يحترق الشاعر بناره المقدسة،لا لشيء سوي أن يعاين لحظة الجمال،حتي تمثلت هذه اللحظة في احتراقه هو،تماما مثل مثل فراشة"مشهور فواز"ومثل ربيع "أدونيس" وفرح"أمل دنقل"المختلس!، و"عمارة إبراهيم "سليل هذا الاحتراق،يسعي إلي اقتناص لحظته وقت طلوع العصافير في مثل هذا الصباح الذي يعج بالحياة،غير أنه قرر أن يعاين هذه اللحظة وحده هذه المرة: أنا فوق صخر هناك بعيد ولا أحد في انتظاري فلا رسل في الطريق ولا هم علي أبينا يفتحون فضاء علي غيمة الصيف من قصيدة:"طلوع العصافير" يفرغ الشاعر إلي عزلته هنا،حتي يتمكن من معاينة هذه اللحظة بعيدا عن إقامته المشروطة مع الغير،وفي غفلة مختلسة،يقوم هو وحده بالتهيأة لها،وبترتيب مواعيدها:فلا رسل في الطريق..وليس ثمة نذر تشير،إنها لحظة الطلوع التي يحاول الشاعر أن يعاين جمالها في محاولة جادة منه للقبض علي هذه اللحظة بغية تثبيتها إلي حين،قبل أن يهجم عليه الفناء، يحاول تثبيتها بفعل القصيدة/بفعل الشعر،ذلك الربيع الضائع،والفرح المختلس!،والشاعر وهو علي هذا الحال-مدرك تماما لحجم ماهو مقبل عليه،وأدرك تماما كذلك لرغبته الرسولية في الفعل،وإحداث الأثر، وهو علي يقين من حجم التحديات التي تعمل جاهدة علي إقصاء دوره،وإفشال مهمته: كأني نبات تعلق فوق الجبال كأني بلاد تعانيها صيحة بالغة لتصير ساعاتها القادمة!! غير أن النهار الذي يتشكل في رحم الغيب،والذي يحلم الشاعر بسطوع شمسه،لا يزال علي وعده مع الشاعر،ولا يزال الشاعر علي وعده معه في مهمة يتخذ الحلم بإنجازها شكل المباكي التي يري خلالها ذلك الطلوع/حلم الشاعر مرثينا بين مرثيتين كما هو حادث-بالفعل-في قصيدتي"مرثية الطلوع،ومرئية الصعود" ذلك الصعود الذي يرسخ لنفرة الشعر،وهي تقود حراكها إلي بيت القيامة هكذا: وكان النهار يفض القيود التي حاصرتني وبين سماسرة الليل طارت ظلال النعاس، وفرت تدق طبول القيصر في دمي، ودم المدن المشتعلة. إنه الدم/الحلم بالثورة علي كل ما هو كريه،وكل ما هو متناقض لرغبة الإنسان في إفساح المجال لأن يبقي الجمال مدة أطول علي هذه الأرض، مدة كافية كي تقوم المدن المشتهاة،لتحل مستبدلة وجودها بوجود مدن الزيف،مدن الأقنعة الكاذبة. عندئذ سيشهد الموقف قرارا بظلال النعاس التي ستفتح الطريق مر غزة لقد الطبول،وهي تقيم قيامتها،وتمزج مستحيلها بعدما يعض النهار قيوده،وينفلت من بين أيدي سماسرة الليل،وكهان المعابد الصماء!،عندئذ لا يسمع سوي صدي واحد: صدي واحد جاء من مطلق عند باب المدينة ……………….. أنا فوق صخر هناك بعيد من القاع أصعد أسوار غنيمات ليلي وأسفل غابات صمتي أحقق مجد الشهادة أشد النهاية نحو البداية وأزرع حرية شمسها من دمي يسفر الشاعر -من خلال هذا الموقف -عن جوهر رسالته،وأصالة مقاصده التي تتمثل هنا في السعي نحو ذلك الخروج الخيالي-مستنهضا مجد الشهادة الغابر،ومستأنسا بشمسه التي ستطلع هذه المرة مخضبة بدمائه،في إشارة بالغة منه إلي ذبيحة الفداء التي ينبغي أن يتقدم بها الشاعر قربانا يكافئ التزامه الإنساني بقضيتي الخلاص والحرية،ذلك الالتزام الذي هو متأصل في فعل الكتابة نفسه،فأن تكتب يعني أن تتكلم،وأن تتكلم يعني أن تكشف عن مظهر من مظاهر هذا العالم بغية تغييره، (1)وبهذا المعني ومن خلال هذا الطرح لا يصبح الشعر مجرد عزاء مقهور لذوات لا تجد السلوي في عالم يتهاوي،وإنما يصبح الشعر القلعة التي تعتصم بها الروح (2)ويصبح الشعر كذلك النشيد الذي سيعانق الخطو في رحلة الطلوع المرتجاه!، يقول عمارة إبراهيم : نشيد البلاد يعانق خطوي وأستل من زهوة الموت سنبلة للحياة. :من قصيدة" الصعود إلي بيت القيامة" ولأن هذه الرغبة في استلال سنبلة للحياة من بين أنياب الموت،تمثل هاجسا جوهريا لدي الفنان بشكل عام،والشاعر علي وجه الخصوص،فإنها -أي هذه الرغبة-تقابل بالعديد من المعوقات التي تحد من قدرتها علي التحقق،وتؤجل عنوة لحظة حدوثها،مما يعمق من أحزان الشاعر،ويفجر من ينابيعه التي يشي هدير سطحها بأعماق دفينة،تتجه إلي كونها أحزانها ذات منزع وجودي،تنجلي هذه الأحزان ويشتد وقع الإحساس بها،حينما نتأمل مشاهدها الدامية من خلال قصيدة"مرثية الطلوع"التي تتشكل بنية ودلالة هكذا: ما أنت في البدء كنت الملحن الآية البشري ولا يدك المرشوقة السهم في أحلامنا موتنا صارت ترج انكسار الريح أو تضرب الكون شدوا مدهشا يسكن الروح في الجسد. يفترض الموقف هنا وجود الآخر المعيق لحركة الذات الشاعرة،وهي تسعي جاهدة صوب صعودها المرجو،ذلك الصعود الذي يتخذ التنبؤ بأحداثه شكل المراسي التي تكتب علي أثر الانهيارات الكبري في حياة الأمم. الشاعر يثور-من خلال هذا الموقف-علي اضطراره إلي إفتاء عمره داخل حدود حياته وحدها،داخل الحدود العابرة العارضة لشخصيته وحدها. إنه يريد أن يتحدث عن شيء أكثر من مجرد"أنا"،شيء خارجي،وهو مع ذلك جوهري بالنسبة إليه (3)إنه الحلم باحتواء العالم شعريا،بحيث يصبح عالما مدهشا،يحفه الشدو فينشغل بحاجيات الروح التي تكافئ احتياجات الجسد،من أجل كسر هذه الثنائية القائمة علي الفصل بين كيان واحد يتمثل في الإنسان الذي ينبع منه الشعر،وتتدفق الأحاسيس التي لا غني له عنها،إذا ما أراد أن يقيم حضارة معمرة علي وجه هذه البسيطة. إن هذه الرؤية التي تجيء ممتزجة بطعم المراثي-من قبل الشاعر-ليست دليلا علي التشاؤم السلبي المغلق،ولكنها دليل علي الشوق المجاور،والمنفتح علي الرغبة في الإصلاح، وإحداث التغيير،فرؤية الشر وتجسيمه لا يعنيان أننا نتهادن معه،ولكنهما يعنيان أننا نواجهه (4) يقول عمارة إبراهيم في قصيدته مرثية الطلوع: يا أيها الشيخ هل أدركت أغنيتي..؟! الماء في الأرض لم يرو اخضراري وزيري واقف فوق إلي يحتضر لم يجد لي ميتة واحدة مختارة من ألم كي تصعد القبو في أنشودة بائسة. إن حضور الشيخ في هذا المشهد يستدعي ما يمثله غيابه من الحكمة في تدبر الحال والمآل،ويستنهض الذات الشاعرة حينما تنقسم إلي ذاتين:ذات مجاورة،وأخري محاورة،بغية إدارة نوع من المكاشفة المناوئة بقصد إزالة الريب،وتنقية المقاصد،إضافة إلي ما يمثله ذلك النوع من الحوار والمصداقية،لأنه يتم بعيدا عن شرط إقامة الذات مع الغير،تلك الإقامة التي تفرض شروطها،وتم لي اختياراتها،فما الشيخ سوي الذات الشاعرة،وما الذات الشاعرة سوي الشيخ،معتدين في ذلك بطبيعة الشعر نفسه،باعتباره بحثا وجدانيا يتسم بالذاتية،وأن افتراض الآخر المتمثل في الشيخ المحاور هنا ماهو إلا افتراض مجازي محض،وعلي كل حالف فإن إنسان هذا الزمان الذي يمثله الشاعر هنا في حاجة ماسة- فيما يبدو-إلي مثل هذا النوع من الحوار الذي يديره بينه وبين ذاته بغية ترتيب الأولويات، وتحديد المواقف التي ينبغي أن يتخذها تجاه معطيات هذا الكون،تلك المعطيات التي ما فتئت تصوب سهام أسئلتها الفاتحة علي قلب إنسان هذا الزمان التعيس،ذلك الإنسان المصاب في حريته المرتجاة وعدالته المندوبية!، أما عن اللغة،فاللغة في العمل الأدبي بشكل عام،وفي الشعر علي وجه الخصوص،إنما تقع مسؤولية إدارتها مباشرة علي عاتق المنشئ،والمنشئ هنا يمثله الشاعر،وإذا كانت اللغة هي المادة الخام التي يتشكل فيها ذلك المنشئ أنساقه التي تحمل فكره ورؤاه،فإن هذه اللغة ينبغي أن تتسم بقدر من التوافق والانسجام ينتظمان المبني والمعني،ويعضدان من قدرتها-أي اللغة-علي المنح،والمتأمل للغة في العديد من المواقف الشعرية التي يضمها ديوان"طلوع العصافير"سيشعر بشيء من الارتباك مبعثه-فيما أحسب-فقدان البعض من هذه المواقف لتدفقها النسبي التركيبي،الذي يضمن لها انسجامها المرجو،وتوافقها المبتغي،بعد أن تم تعطيل هذا التدفق بنية ودلالة،لنتأمل شيئا من هذه المواقف الشعرية،ففي قصيدة"وجع يرتل ألقا"يتحدث الشاعر عن ذلك الباب ذي الخشب الواهن،الذي لا يقدر يحمينا-علي حد قوله- قائلا: يدخل منه الأعداء يغيرون علي نوبة عشقي وهواء في رئتي ولقانا في حقل أخضر كنا نفصل بين حبيب وحبيبة دودة قز هاما حبا في لو زى توت أخضر زاد العشق أطاحت بالجوهر فكيف يصبح اللقاء في ذلك الحقل الأخضر مثمرا شعريا،وهو علي هذا الحال،التي يفصل فيها بين حبيب وحبيبة،وأي عشق ذلك الذي عندما يزيد،يطيح بالجوهر؟! وفي قوله من القصيدة نفسها: تقف علي طرف مدينتنا شمس إلهية وأنا ساكن يهتز يهتز وساكن لا تركض خلف مدينتنا فهنا مثلا يشعر المتلقي بعدم التلاؤم شعريا مع ذلك الذي يهتز وساكن،وساكن يهتز،خاصة عندما تفاجأ أن هذا الشيء وهو الذي يحول بيننا،وبين أن يركض خلف مدينتنا المنقولة نحو شتات العالم،علي حد قول الشاعر: لنتأمل الموقف: الأخضر والأبيض في الروح العود اشتد وتطير الصمت الواقف عند حدود البيت يحط علي قلب مدينتنا نجم البيت الراقص في الزهو الجالس في بهو البيت لعبا في وجع العاشق يمضي القا-شرحا أيا كان الوصف فأي عوائق تلك التي يرسخ لها الموقف مع ذلك الطير الواقف عند حدود البيت،الراقص في الزهو،ذلك الزهو الذي يتحول علي عكس دلالته تماما-إلي لهب في وجه العاشق!.ومما يؤسس لضبابية الرؤية،والطرح الشعري علي السواء،تتمثل هنا في قول الشاعر: يمضي ألقا..شبحا..أيا كان الوصف هكذا:مما يشي بعدم الاكتراث الدلالي،والموقف-إضافة إلي ذلك -يشهد عنتا تركيبيا في تشكيل بنية المسند والمسند إليه في حالتي الوصف والإضافة هكذا: نجم البيت الراقص في الزهو الجالس في بهو البيت"تتكرر" أمثال هذه المواقف عبر النصوص،مما يسهم -حسبما أري- في إجهاض الصورة الشعرية،وين كي عن بتر الدلالة،ويحدث سكرا لما يمكن أن نطلق عليه المراتب الزمني للحدث الشعري. الهوامش: *ديوان "طلوع العصافير"/كتاب الاتحاد/الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008. يراجع:ماكس اديريث/الأدب الملتزم/ترجمة سعدي يوسف/دار الهمداني للطباعة والنشر/المعلا/عدن 1984،ص 34،35، 2- يراجع :محمد إبراهيم أبو سنة،ديوانان من الشعر/الدار المصرية اللبنانية القاهرة2006، 3 -يراجع:إرنست فيشر/ضرورة الفن/ترجمة أسعد حليم/الهيئة المصرية العامة للكتاب/مكتبة الأسرة 1998ص15 4 – يراجع: صلاح عبد الصبور/الأعمال الكاملة/الهيئة المصرية العامة للكتاب ص 107. د.عبد الحكم العلامي