يعود الشاعر اللبناني عبده وازن بديوانه "الأيام ليست لنودعها"، (منشورات الجمل) إلى الشعر "الخالص" بعد غيابٍ، أصدر خلاله رواية للفتيان بعنوان "الفتى الذي أبصر لون الهواء"، فازت بجائزة الشيخ زايد للكتاب، وأخرى عن سيرته الذاتية بعنوان "غرفة أبي". ويبقى أن حضور عبده وازن كشاعر متميز هو الأبرز في مسيرته الإبداعية منذ "الغابة المقفلة" الصادر في 1982، مرورا ب"سبب آخر لليل"، "أبواب النوم"، "سراج الفتنة"، "نار العودة"، ووصولا إلى "حياة معطلة"2007. وله في النثر أيضا "العين والهواء"، "حديقة الحواس"، "قلب مفتوح" (رواية - سير ذاتية). ولعلني لا أجاوز الحقيقة حين أقول إن الشعر يحضر في ثنايا نثر عبده وازن، خصوصا لجهة الانشغال هنا وهناك بأسئلة وجودية تؤرقه. الغلاف؛ لوحة للفنانة ريم الجندي، تعكس جدل الحياة والموت، بما يعبر عن محتوى العمل، أما الإهداء فإلى الشاعر أنسي الحاج "الساطع بحضوره أبدا"، والديوان مشغول بأسئلة وجودية طالما شغلت الشعراء والفلاسفة، خصوصا سؤال الموت، وبالطبع سؤال الحب وسؤال الفردوس المفقود ووحشية بعض البشر، والاغتراب والفقد.. الخ. يضم الديوان أكثر من 80 نصا يغلب عليها القِصر، ولكل منها عنوان مستقل، ما أربك تدفقها، وكان من الممكن دمج كثير منها لتلافي ذلك الارباك من ناحية، وللتخلص من تكرار الحالة الشعرية في كثير من النصوص، من ناحية ثانية، بل ولتلافي تكرار نصين وردا في موضعين مختلفين في الديوان بعد تغيير العنوان وادخال تعديلات طفيفة عليهما! العنوان؛ "الأيام ليست لنودعها"؛ يبدو وكأنه صرخة في وجه تجار الموت، أو "البرابرة" بحسب عنوان إحدى قصائد الديوان الذي يتجاور فيه الموت والحب، ويحتفي في الوقت ذاته بالحياة ومراوغة الشعر، ويتأسى على ضحايا القتل العبثي الذي يشهده لبنان ومحيطه. من هؤلاء الضحايا، وازن نفسه، بنص شهادة له منشورة في موقع "جهة الشعر"، تحت عنوان "الشعر والحرب"، حيث يتحدث عن نفسه وعن جيله من الشعراء اللبنانيين... "بصراحة؛ إننا نشأنا في معظمنا محذوفين وربما مهمّشين ليس لأننا لم نلتزم القضايا الكبيرة بل لأنّ الحرب كانت أقوى منا ولأنّها سبقتنا في عنفها وضراوتها، وعوض أن نكون من صانعيها كنا من ضحاياها". وفي الشهادة نفسها يقول: "... على أن الشعر كان وسيظل ذاك النشاط السري الذي نمارسه ونحن نيام مثلما نمارسه في يقظتنا. إنه سرنا الذي كلما لمسنا ضوءه جهلناه وكلما نعمنا بدفئه ظمئنا إليه". هكذا؛ تظل الأولوية للشعر الذي لابد من العودة إليه وإلى أعلامه؛ رامبو وهولدردل ورينه شار وروجيه مونييه، وطبعا أنسي الحاج، وإن طال الغياب. يقول وازن في ختام القصيدة الأولى من ديوان "الأيام ليست لنودعها"، وعنوانها "منادمة": "القصائد تأتي متأخرة دوما". ونقول أن تأتي متأخرة لهو أفضل من أن لا تأتي مطلقا، أو أن نستبدلها بجنس أدبي آخر مثلا. ثم في القصيدة الثانية وعنوانها "سرقة"، يقول: "قد يأتي يومٌ أكتب قصائد بلا انقطاع، كأنما أسَّمعها عن ظهر قلب، لكنني سأكون على يقين، أنني سرقتُها"! وفي قصيدة أخرى عنوانها "لاحقا" يقول: "القصيدة أكتبها لاحقا"، ثم يستدرك: "القصيدة تكتب نفسها لاحقا" ص 42، 43. بعد أكثر من مئة عام على رحيله يحضر رامبو (1854 – 1891) الذي كتب أشهر أعماله وهو في أواخر مراهقته، ثم لاذ بالصمت بقية عمره القصير. في قصيدة "كأس رامبو"، يبدو الشاعر أقوى من الموت الذي -بالنسبة إليه- ليس سوى استعادة للأبدية... "لا أحد يعلم إن كان رامبو اكتشف هناك الحياة الحقيقية التي وصفها بالغائبة. هل أدرك لماذا غادر العالم وهو في قلب العالم، كما كذب مرة كذبته البيضاء؟". ص 29. "الأيام ليست لنودعها"، وهي أيضا كما ورد في القصيدة السابعة وعنوانها "أيام"، ليست لنعدها، أو نتحسر عليها، فما الذي ينبغي علينا أن نفعله؟ "الأيام لننظر إليها/ تسقط مثل أوراق شجرة/ ثم تتطاير في هواء/ لم يحن هبوبه". ص 16 وفي قصيدة "عزلة" يقول: "الصفحة المفتوحة الآن/ سيطويها الهواء غدا"، ثم في القصيدة التالية يسقط عصفور ضاقت به السماء، وعودة إلى الأيام في قصيدة "إلى وراء"، باعتبارها صفحات تُطوى، تنقلب إلى وراء؛ "مثلما تسقط شجرةٌ من ثمرة/ مثلما تشرق شمسٌ من قطرة ضوء/ مثلما ينبجس بحرٌ من صدَفةٍ". ولكن هل يمكن أن تشتعل في نفوس الموتى ذكرى أيام لهم على الأرض فيتوقفون للعودة إليها؟ يقول وازن في قصيدة "هجرة" المهداة إلى هولدرلن: "سيعودون لابد أن يعودوا/ عندما يدب فيهم السأم/ عندما يغلبهم الشوق/ عندما تشتعل في نفوسهم/ ذكرى أيام لهم على الأرض". وفي قصيدة تالية يقول عجوز لشجرة قرب النافذة: "عندما أموت سأكون في قلبك"، وفي قصيدة أخرى: "الميت الذي تحلقوا حوله/ أوصوه أن يحمل أزهارا إلى موتى آخرين/ يسمونهم موتاهم". أما قصيدة "كأنهم نائمون"، فهي مهداة الى أطفال فلسطين وسورية؛ الذين أرداهم قتل بربري... "هم لن يستيقظوا باكرا كعادتهم/ الساعة لن تدق/شعاع الشمس لن يرتمي على وجوههم/ الصباح لن يدخل من النافذة" ص52. في قصيدة "الرائي"، يقول "يرى ما يكفي/ وهو في عالم لا يقطنه أحد". ص 44، 45. ثم يعود ليكرر في قصيدة "لجة": "أرى ما يكفي، ما يجعلني حجرا بلا ضوء" ص 95. في قصيدة "زجاج" ص 54 ظل يبحث عن شخص، ثم في قصيدة "عبث" وهي من سطر واحد: "وجدني ظلي، أما أنا فلا" ص 101. وهناك أيضا قصيدة بعنوان "جلبة"، من سطرين يلخصان مأساة الحرب الممتدة وضحاياها الذين يسقطون كل يوم: "لا تسمع إلا رجع دم/ يسقط من يدين مسبلتين في الهواء" ص 130. وبعد، هناك الكثير مما يمكن التوقف عنده في هذا الديوان، الذي يعود به الشاعر عبده وازن إلى الشعر، وربما تكون لي عودة اليه قريبا. ----------- من المشهد المطبوع عبده وازن عبده وازن