حين تتحول الفتوي إلي »قنبلة» فيجب علي الجميع أن يدق ناقوس الخطر لمواجهة مُفجري العقول واللاعبين بأحكام الشريعة.. فخلال السنوات الأخيرة استغل المتطرفون فتاوي شاذة لقادتهم المزعومين للقيام بعملياتهم الإرهابية واستندوا إليها لتبرير أفعالهم الخبيثة، مما استدعي مواجهة حازمة من مؤسسات الأزهر الشريف ودار الإفتاء لرصد هذه الفتاوي الإرهابية والرد عليها إلكترونيا بكل اللغات مع العمل علي التوعية الفكرية بخطورة هؤلاء الآثمين علي الفكر الإسلامي الوسطي.. وبقيت ضرورة التجديد في طريقة عرض المعلومات الفقهية علي الناس.. د. مجدي عاشور المستشار الأكاديمي لمفتي الجمهورية أحد العلماء البارزين وصاحب مدرسة جديدة في إيصال المعلومات الدينية لرجل الشارع بطريقة سهلة وميسرة من خلال برامجه الإذاعية والتلفزيونية التي نالت إقبالا غير محدود من جمهور الناس.. التقته »جريدة الجمعة» ليجيب عن العديد من الأسئلة التي تشغل بال الكثيرين، وتطرقنا معه للعديد من القضايا. • لأنها أصبحت فكرة رائدة.. كيف جاءت »دقيقة فقهية».. وهل تري أننا نحتاج إلي كثير من »الدقائق» المؤثرة؟ - تبلورت الفكرة رداً علي انتشار الفتاوي بصورة كبيرة خاصة من غير المتخصصين والتي أحدث بعضها بلبلة لدي الناس بسبب الآراء المختلفة والخلافات المذهبية وعدم الوعي بفقه الواقع إلي غير ذلك، فكان التفكير في عمل برنامج قصير يقدم إجابات مختصرة عن الأسئلة الفقهية الشائعة بين العامة من أجل تشكيل وعي وسطي بين الناس مع ترسيخ القيم والأخلاق بصورة تحفظ علي المسلم هويته الدينية والوطنية. هل تري أن البرنامج أدي دوره في خدمة قضية تجديد الخطاب الديني؟ - أري أن المعني الصحيح للتجديد الذي نريده بل يريده كل عاقل سَوِيٍّ هو تغيير ما هو واقع سواء في الفكر أو غيره من معانٍ غير صحيحة في المفاهيم أو في الفهم أو في التطبيق لدي الفئات المتشددة والمنحرفة، حتي ولو كان بالرجوع إلي الفهم أو التطبيق الصحيح الذي كانت عليه الأمة قبل ظهور تلك النتوءات الغريبة (المتشددة) التي كدرت علي الناس دنياهم ودينهم. تفسيرات مغلوطة! انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة الإفتاء علي الهواء خاصة من بعض غير المؤهلين.. كيف تري ذلك؟ - لا شك أنه قد نتج عن ذلك تشويه كبير لصورة الإسلام والمسلمين في الآونة الأخيرة خاصة بعد تصدر أصحاب المرجعيات الموازية علي شاشات الفضائيات ووسائل الإعلام الأخري، وقد حصل عن ذلك اختلال في الرؤية والعرْض والنتيجة، وهذا مدخل مهم في كيفية انتشار خطاب خطير شابهُ شيءٌ من التفريط والإفراط علي حدٍّ سواء.. وقد تسبب ذلك في ذيوع تفسيرات مغلوطة للنصوص الشرعيَّة تحمل منظومة الأخلاق بصورة مغايرة عما هي عليه في صحيح الدين، بل نجدها في أحيان كثيرة متناقضة فيما بينها ينضح منها التنازع والاستقطاب، وذلك من أجل خدمة المرتكزات الحركية والفكرية لهذه الجماعات والمدارس حتي وصل الأمر إلي تحدي الهوية المصرية بشكل سافر لتغييرها سلبًا، كما وصل الأمر لما نشاهده من الجرائم البشعة من إراقة الدماء الزاكية ونهب الأموال المعصومة وهتك الأعراض المصونة. ميثاق شرف! هل تري أن السيطرة علي تلك الفوضي تتم بفرض عقوبات علي هؤلاء المفتين بالفضائيات؟ - هذه الظاهرة الخطيرة تحتاج إلي خلق وعي مجتمعي يجعل المستفتي لا يسأل إلا المتخصصين، كما يجب علي الجميع أن يتكاتف من أجل القضاء عليها ومعالجة آثارها المدمرة.. وأري ضرورة تقنين نظام الإفتاء والفتوي بحيث يكون لهذا المجال ميثاق شرف يتضمن الأُطُرَ القانونيةَ والإجرائيةَ له، وإصدار ما يلزم من تشريعات تنظم عملية الفتوي، بالتعاون مع أهل الاختصاص خاصة الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية، وهو ما تقوم به الآن اللجنة الدينية بمجلس النواب برئاسة د. أسامة العبد. يري البعض أن انتشار الفتاوي بالفضائيات والإنترنت سحب البساط من دار الإفتاء كمرجعية للفتوي في مصر.. كيف ترد علي ذلك؟ - هذا الرأي غير صحيح بالمرة، لأن دار الإفتاء المصرية لها مكانتها الكبيرة في نفوس المصريين بل وغير المصريين فهم يرجعون إليها في جميع أسئلتهم عبر المنافذ المختلفة شفويًّا وهاتفيًّا وكتابيًّا وإلكترونيًّا سواء المقر الرئيسي بالقاهرة أو من خلال فرعي دار الإفتاء بأسيوط والإسكندرية أو بوابة دار الإفتاء التي يدخل عليها الملايين من أنحاء العالم.. بالإضافة إلي التواصل مع جمهورها عبر التليفزيون والإذاعة والقنوات الفضائية، وكذلك عبر ما يسمي ب»الإعلام الجديد»، كشبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، لما تمثله هذه الشبكات من ساحات للتفاعل والتواصل مع الآخرين خاصة الشباب.. كما تعمل المؤسسة علي تطوير ذاتها فنيا وإداريًّا بصورة دورية حيث أنشأت في السنوات الأخيرة إدارتين هما: »الفروع الفقهية»، و»نبض الشارع»، لاستكمال الشجرة الفقهية ورصد وتفنيد مقولات التطرف والإلحاد والشبهات المطروحة إعلاميا وأكاديميا عبر المراصد المتخصصة.. وعلي المستوي العالمي تتفاعل دار الإفتاء معه بجدية وبصورة لحظية يومية، وذلك من خلال البوابة الإلكترونية التي تصدر بثماني لغات عالمية، قد رُوعي في اختيارها أنها لغات أمّ لكثير من سكان الكرة الأرضية، حيث تستقبل من خلاله الأسئلة المختلفة لتجيب عنها، كما أنها متنفسٌ صالح لنشر كل ما تراه صالحًا ونافعًا لأمة الناس. تستند الجماعات المتشددة إلي فتاوي تبيح القتل وسفك الدماء باسم الإسلام.. ما جهود دار الإفتاء في تفنيد هذه الفتاوي؟ - تبذل دار الإفتاء جهودا كبيرة في هذا المجال حيث أصدرت عدة كتب في تفنيد المرتكزات الفكرية التي تستند إليها هذه الجماعات المتطرفة، كالجهاد حقائق وأباطيل، وفقه الجندية، والتكفير، وهي عبارة عن فتاوي في موضوعات متنوعة تقوم ببيان الرأي الشرعي في مثل هذه الموضوعات المطروحة، كما أصدرت دار الإفتاء موسوعة »دليل المسلمين إلي تفنيد أفكار المتطرفين» في مجلدين من أجل تفنيد جميع الفتاوي المتطرفة بشكل أوسع والتي تم رصدها من خلال مرصد الإفتاء ومن خلال الصفحات المتخصصة علي شبكة الإنترنت.. كما تصدي فضيلة المفتي لتفكيك الفكر المتطرف عبر مقالاته في الصحف والمجلات المتخصصة من خلال عدة سلاسل علمية. وقامت مراصد دار الإفتاء المختلفة في مواجهة التكفير والتطرف برصد هذه الفتاوي وتفنيدها وتقديم عدد من التقارير والدراسات الخاصة بذلك، مع الاهتمام بمواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا وتصحيح صورة الإسلام في الغرب. كيف تتعاملون مع العقول الشاردة؟ - هناك ثلاثة أساليب قررها العلماء في هذا السياق، وهي: البيان والرد والهجوم، ونحن نميل إلي اتباع منهج البيان والتوضيح، ثم منهج الرد إن استلزم الأمر، دون اللجوء إلي الهجوم، حتي نكون بمنأي عن الفعل ورد الفعل أو الدخول في سجالات لا تفيد الدين الحنيف ولا الأمة شيئًا ولا رسالة العلماء المعتبرين بل قد يكون ذلك هدفًا من أهداف تلك الجماعات المتطرفة، في ضياع الوقت واستنزاف الطاقات التي يجب أن توظف لخدمة البلاد والعباد. خلل في الفهم الخلط بين الفتوي والحكم الشرعي تسبب في انتشار الفتاوي الشاذة والمنحرفة.. ما تفسيرك لذلك؟ - هذا ناتج عن الخلل في الفهم الحقيقي للنصوص الشرعية؛ لأن أغلب أفراد هذه التيارات وإن كان لديهم معلومات عن الدين إلا أنهم خُلْوٌ من الضوابط والقواعد الحاكمة لفهم النصوص، وهو ما يُطلق عليه عند ذوي المدارس العلمية المعتبرة »العلم»، وفارق كبير بين العلم والمعلومات.. كما أن عدم الإلمام بالفرْق بين الحكم الشرعي وبين الفتوي سبب ذلك لكن وبشكل أكبر في ظاهرة فوضي الفتاوي. وتظهر حقيقة الفرق بين هذين المجالين في أن الحكم الشرعي عبارة عن حكم كلي مجرد عام لكل عاقل بالغ فاهم بغض النظر عن أهليته لأداء ما تضمنه هذا الحكم. والفتوي مرحلة تالية علي الحكم الشرعي حيث ينظر فيها عند تنزيل هذا الحكم الشرعي إلي أحوال المكلف من حيثية الضرورة والحاجة التي تنزل منزلتها في إباحة المحظورات، ومن مراعاة الأعراف والعادات، ومراعاة طبيعة المكان والبيئة مما يؤثر في حياة الناس وأعرافهم وعاداتهم وتعاملهم. أصبح كثير من الشباب علي طرفي نقيض بين تشدد سببه الفتاوي المتشددة وإلحاد سببه الفتاوي الشاذة والتفسيرات المغلوطة.. كيف نرد هؤلاء وهؤلاء إلي الاعتدال والوسطية؟ - لعل أولي خطوات رد الشباب إلي الوسطية والاعتدال تكمن في نشر المعرفة الصحيحة، وهذا يستوجب تكاتف الجهود بين الأسرة والمؤسسات والمجتمع حتي نجنب هذه الأجيال الأسباب الداعية للتطرف والشذوذ. مواكبة التكنولوجيا كيف استفادت الدار من التطور التكنولوجي لخدمة الإفتاء ومواجهة خطاب التشدد؟ - شهدت دار الإفتاء في العقد الأخير تطويرًا واسعًا شمل العمل الفني والإداري بها، وفقًا لأحدث ما وصلت إليه تكنولوجيا العصر، فيما يمكن أن يطلق عليه »ميكنة الفتوي»، والتي من شأنها توفير إمكانات البحث والأرشفة والتصنيف وعمل واستخدام نماذج الإجابة واستخراج الإحصائيات والتقارير والتوزيع التلقائي للأسئلة علي أمناء الفتوي والباحثين.. وهذا أدي إلي توسع ملموس في الإدارات الشرعيَّة التي تقوم علي بيان الحكم الشرعي ونشر الوسطية كإدارة الهاتف، والفتوي الإلكترونية والفتوي الشفوية، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإطلاق تطبيقات للفتوي علي أنظمة »أندرويد»، و»آي أو إس» لأجهزة الهواتف الذكية، وكل هذا يعمل به فرق من الباحثين المتخصصين والأكفاء إيمانًا من دار الإفتاء بضرورة مواكبة التكنولوجيا الحديثة في وسائل الاتصال، لضمان الوصول لأكبر شريحة ممكنة من المسلمين حول العالم.