هناك.. بعيدا في قلب القري والنجوع يجلس الأجداد ليحكوا إلي أحفادهم حواديت ما قبل النوم.. وهي عادة أسطورية خارقة عن بطل لا يقهر يجوب البلاد ويقطع المسافات ويري العالم بعينه الخاصة.. الطفل محمد صلاح العزب كان واحدا من هؤلاء الذين جلسوا في حجر أجدادهم ينصتون ويتلذذون بتلك التفاصيل الخارقة التي تعطي للمستقبل نكهة الإثارة وطعم الزخم، عوالم عديدة، وحكايات تستمر برغم الموت والفناء، قدمها لنا العزب في روايته الجديدة "سيدي براني" الصادرة مؤخرا عن دار "الشروق"، التي تسير في خطين، أحدهما واقعي يتمثل في حياة الجد الأخيرة مع الحفيد، والآخر فانتازي عن حيوات الجد المختلفة التي خاضها انطلاقا من "سيدي براني" المدينة الحقيقية الواقعة علي الحدود المصرية، التي جاءنا العزب منها بحكاياته الملفتة، وعن روايته وعالمه، كان لنا هذا الحوار معه. بداية.. كيف تقيم روايتك الجديدة مقارنة بكتبك السابقة؟ - التقييم ليس لي، ولكن يمكنني القول إنني بذلت مجهودا في هذا الكتاب يفوق ما بذلته من مجهود في الكتب الأخري بثلاثة أو أربعة أضعاف، استغرقت في كتابته من سبع إلي ثماني سنوات، وقد عملت علي مسودته أكثر من عشر مرات، شعرت أن الأمر ليس سهلا بالشكل الذي كنت أتصوره، أحتاج إلي الكثير من الشغل والمجهود والتعب، والخبرات، والحياة. مساحة الأسطورة في الرواية كبيرة.. هل تري هذا النوع من الخيال يحتل مساحة كافية في حياتنا؟ - الخيال الآن متقلص تماما، يكاد يكون منعدمًا في بعض الأماكن، بفعل بعض الأشخاص والظروف، نعيش في مدينة مزدحمة، مهمومين بالواقع، بينما نحن في حاجة ماسة إلي مساحات أرحب من الخيال كي تكون حياتنا متحملة، ونستطيع المواصلة والاستمرار، وكي تزيد مساحات التفكير والابتكار. هل يحضر عنصر الخيال بصورة كافية في الأدب؟ - لا، ليس موجودا بالقدر الذي يفترض أن يكون عليه، لا أقول إن الخيال يجب أن يكون متجاوزا أو مسيطرا، ولكنه يجب أن يكون موجودا كباقي الاتجاهات ومنها الرواية الواقعية. هل ستستكمل الخط الأسطوري في روايتك القادمة؟ - لا، سوف تميل للواقعية، وستدور عن القاهرة الحالية، ولكني لن أنتهي منها قبل عامين أو ثلاثة، فالكتابة لا تلح علي كثيرا، وأنوي أن أقرأ، وأعيش أكثر في الفترة القادمة. تبدو كتابتك وكأنك تحرص علي ألا تخلو صفحة من الجنس؟ - ليس إلي هذه الدرجة، أعتقد أن مساحة الجنس في سيدي براني محدودة، و"وقوف متكرر" مثلا التي رسخت هذه الفكرة ليست بها علاقة جنسية واحدة كاملة، وتناول هذا الموضوع فيها يتم من بعيد إلا في فصل واحد، ومع ذلك لست ضد الكتابة في الجنس، وربما أكتب في يوم ما رواية من التي يطلقون عليها "إباحية"، ولا مانع عندي وقتها من أن أكتب علي غلافها "رواية جنسية" لأني لست مهموما بإصلاح أو إفساد أخلاق الآخرين، همي الأساسي هو الفنية، وبالنسبة للمهتمين بقراءة أعمال أخلاقية، يمكنهم اللجوء إلي كتب الدين والأخلاق، ولهم أن يتجاهلوني، كأنني غير موجود. علي غرار السينما النظيفة، هل يمكن أن نري ظاهرة الكتابة النظيفة؟ - بالفعل هناك كتابات كذلك الآن، وأنا نفسي سأفعل مثلهم، ولكن حين تخلو الحياة من الجنس، أما الآن فهذه هي الحياة، وأنا أكتب الحياة، وحين أنكر هذا أصبح مؤلفا، وأنا لست مؤلفا، ولا أختلق واقعا غير موجود. إذا كان البعض يرسمون شخصية تسير طوال النهار، وحين تأتي ساعة الجنس يقطعون الحكي، فإن هناك في المقابل بعض الروايات، الأكثر مبيعا، تعمّد كُتّابها زيادة جرعة الجنس، وكذلك الدين، أو الجنس والسياسة والفتنة الطائفية، أو الختان، كي تحظي أعمالهم بترجمة أو مبيعات، المشكلة ليست في موضوع الزيادة، وإنما في فكرة أن الكاتب قام بزيادة جانب ما دون وجه حق. كنت أحد كتاب مجلة "جسد" اللبنانية.. ما رأيك فيها وهل يمكن أن يكون لدينا مجلة تشبهها؟ - هذه المجلة محترمة جدا، فهي متصالحة مع شيء نهرب منه، ونعتبره غير موجود، صعب جدا أن يكون عندنا مجلة تشبه "جسد"، فالمجتمع مختلف، وسيراها نوعا من الانحلال والفساد. كيف ينظر المصريون لأجسادهم في رأيك؟ - نحن لا نتعامل مع الأشياء بصورة طبيعية، نعاني فوبيات متعددة من الجسد، ومن الجنس، رغم أنه لا يوجد داعٍ لكل هذه الفوبيات، فهي أمور طبيعية لا أدري لماذا نتعامل معها بهذا القدر من الخوف والسرية. فكرة التصالح مع الجسد مهمة جدا، ومع ذلك نهرب منها طوال الوقت، ليس علي مستوي الكتابة والثقافة فقط، بل وفي حياتنا اليومية، يمكنك أن تلحظ هذا إذا ما نظرنا إلي أجساد المصريين في الشارع، تجد أن معظمهم ما هو إلا كرش أو مؤخرة، والشكل العام مزرٍ، و للأسف نتعامل مع أجسادنا علي أنها "شيء" نأخذه معنا في طريقنا، ولو استطعنا تركه في البيت لفعلنا، وهذا ليس حبا أو كرها فيه، فليس لدينا منه موقف أصلا، هو مجرد عبء في نظرنا، لا يستحق الاهتمام، شيء زيادة، وهو ما ينعكس علي نظرة من يكتبون ومن يقرءون للكتابات. كيف نظرت إلي تحذير بهاء طاهر لك من مسمي "كاتب شاب"؟ - أري أن التقسيمات أمر ساذج جدا، لا يوجد ما يسمي "كتاب نوبيون" و"كتاب شباب" و"كتاب ريف"، وما إلي ذلك، هي تسميات ابتكرها الصحفيون والنقاد كنوع من الاستسهال، أنا ضد هذا، كل كاتب تجربة وحده، وفكرة تقسيم الأمور بالسن والأقدمية، أمر ساذج. إلي أين وصلت القضية التي رفعها ضدك الشابان اللذان وضعت صورتهما علي غلاف رواية "وقوف متكرر"؟ - المحامي العام رفض حفظها وأمر بفتح التحقيق فيها، ولكني لا أتابع الموضوع كثيرا، فهناك محاميان من "ميريت" و"الشروق" هما اللذان يتابعان، لا أعرف إلي أين وصل الأمر، أعتقد أنه لا يخصني، فأنا لم أصورهما، ولا أنا من صمم الغلاف. الموضوع كله كوميدي، وسعيد بأن الرواية وصلت إلي شابين لا أعرفهما من "مدينة السلام"، ادعيا أن الرواية تسببت لهما في مشاكل، ولو أن الروايات تنتشر في حياة الناس بهذا الشكل، وتؤثر فيهم إلي هذه الدرجة، فهذا أمر عظيم. البعض رأي أنك اختلقت هذه المشكلة؟ - كنت لأفعل هذا في بداية صدورها، لكن القضية زامنت الطبعة الثالثة أو الرابعة من الرواية، وكنت أجهز لرواية جديدة تصدر بعدها بشهرين، لو أنني كنت أريد أن أفعل شيئا علي سبيل الترويج، كنت سأروج للرواية الجديدة. كيف تنظر لواقع دور النشر؟ - خريطة دور النشر الحالية مرضية، الاختيارات متعددة أمام الكاتب حسب جودة كتابه، المشكلة الأساسية أن كل دور النشر المصرية بلا استثناء تعاني من مشكلة توزيع وتسويق رهيبة، الناشرون يتعاملون مع النشر علي أنه مطبعة يتوسطون بينها وبين الكاتب، رغم أن هذا هو أسهل جزء، أما أهم وأصعب جزء، الذي يعد من صميم عمل الناشر، ويحقق له أموالا وانتشارا فغائب للأسف، الكثيرون يكلمونني ويسألونني: أين الكتاب لا نجده؟ فأضطر لإرساله لهم بنفسي. مركزية القاهرة أيضا مشكلة، فالكتب لا تصل إلا لثلاث محافظات علي الأكثر، وحتي في القاهرة مستحيل أن يتواجد الكتاب في أكثر من خمس مناطق، ولا يصح أن نتحدث عن فكرة أكثر الكتب مبيعا في ظل هذا، كما أن كتبًا قليلة هي التي تخرج من مصر، بمعدل خمسة من كل 100 كتاب، في حين أن كثيرًا من دور النشر ترفض فكرة المشاركات مع دور النشر في الخارج، هم يتعاملون مع الأمر بعدم نضج، كأنهم يبدأون لتوهم. هل تري أنه لا يزال هناك مجالات تعاني قلة في تناولها أدبيا؟ - نعم، الكثير منها، كالأدب البوليسي، وأدب الرعب، والخيال العلمي، والروايات الرومانسية، كلها مجالات موجودة علي مستوي العالم وتحقق أعلي مبيعات، وتجتذب شريحة كبيرة من قراء يدمنونها، ولا يقرأون غيرها. كتاب هذه الأنواع عندنا قليلون، يعاملون علي أنهم «درجة ثانية»، ويعانون من الإحراج في حضرة كتاب الرواية والقصة، وبعضهم بدأ يكتب روايات كنوع من الترقي، الأمر يشبه نكتة طبيب الأطفال الذي يترقي فيصبح طبيبا للكبار، وتلك نظرة قاصرة ومريضة. هل ثمة مناطق لم تطرقها الرواية العربية بعد؟ - نعم، فالكاتب ما هو إلا شخص يجلس ويتخيل أو ينتظر الإلهام، ثم يؤلف، أو يتذكر، تغيب أنواع كالرواية البحثية، أو تلك التي يقوم خلالها الكاتب برحلة لسنة أو اثنين في أماكن مختلفة كي يخوض تجربة مختلفة يكتب عنها، هذا يحدث في كل أنحاء العالم، ويقدم روايات عظيمة، لعل هذا يعود إلي المقابل الجيد الذي يحصل عليه الأدباء في الخارج، ويمكنهم من مواصلة الكتاب، ورغم أن هذه صعوبة تواجه الكاتب في بلادنا، فإنهم قادرون علي تحقيق ذلك لو فكروا جديا، في أن يبحث وأن يعيش تجارب مختلفة، فينتج رواية جديدة ليست مجرد يوميات. كيف تنظر لجائزة "البوكر" في ظل المشاكل التي دارت حولها العام الماضي؟ - هي أهم جائزة عربية، وأي شيء حدث معناه أنها جائزة في منتهي النجاح، وقد أصبحت حدثا جللا ينتظرونه من العام إلي العام، هذا رغم أن روايتي لم تدرج ضمن القائمة الطويلة، ولكن لا بأس، فميلان كونديرا لم يحصل علي "نوبل"، وقائمة هذا العام جيدة، وتكاد تخلو من عيوب السنوات السابقة، يكفي أنها متنوعة، وهذا هو المطلوب.