"على أرض مصر الطيبة، وفى مشهد انفجار اجتماعى مفاجئ للذين يؤمنون بأنه لاجديد تحت الشمس من السادة والعبيد، وهم الأغلبية فى كل عصر، قاد نبى الله موسى– عليه السلام- حملةً شرسةً على الذى تجرى الأنهار من تحته؛ وعلى هذه الأرض، أرض اللوتس، سرعان ما واجه هذا القائد العظيم وأحد أولى العزم من الرسل خطابًا انهزاميًا اتهاميًا مستفزًا من جماعة المضطهدين المهشمين نفسيًا، وذلك باحتدام الصراع مع النظام المستبد المتألِّه وقواعده الفاسدة، بصيغة فلولية صريحة: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)! إنها مصر صانعة التاريخ، تاريخ ثرى بمظاهر البطولة بلا شك، غير أنه لا يخلو من أعراض الانسحاب،تاريخ فصيح فى افتتاحياته الفخمة، إلَّا أنه أحيانًا ما تأخذه تأتأة محيرة ومحرجة، و(أوذينا) هذه كانت بغير شك تأتأة محرجة لا تُرشِّح أصحابها المستضعفين للفوز فى الصراع الجذرى، الذى فرضته أهداف شريفة كان من ضمنها (عيش.. حرية.. وعدالة اجتماعية)؛ غير أنهم فازوا فى نهاية الأمر، لأن الله أراد، ولأن موسى يمتلك عصاه. وأنا لست منحازًا للدكتور مرسى تحديدًا لأبحث عن إعفائه من الضريبة (أوذينا)، التى فرضها الشعب مبكرًا على من يقوده بعد الثورة، بتزكية من قطاع من النخبة والقنوات الإعلامية، ولم تفرضها الشعوب الأوروبية على القيادات، التى تولت المسئولية بعد خراب الحرب العالمية الواسع الذى هوى بتموين المواطن فى بعض النواحى إلى تمرة يوميًا، يأكلها نهارًا، ويمصمص نواتها فى العشاء، غير أنهم اختاروا الاصطفاف الوطنى واختاروا ذلك الشىء البغيض الذى يسمى: (العمل). أشهد أن موسى نبى، والدكتور مرسى ليس كذلك، وأنا لست منحازًا للدكتور مرسى، ولكنى منحاز لمستقبل أفضل لهذا الشعب؛ وضبط اتجاهنا على هذا المستقبل يحتِّم تقنينًا ما لهذه الضريبة، بحيث لا تبدو جزافية واستباقية بل وكيدية.. هذا ما أراه بغض النظر عن اسم الحاكم واتجاهه؛ أنا أبحث عن استثناء لمصر وليس لتيار أو شخص ما؛ يجب أن يعطَى حاكم مصر تلك الفرصة شبه الكاملة بدون أن يتم حرق الأرض من تحت قدميه على خلفية استقطاب محتدم ونزعات ميكافيللية، حتى لا تكون سنَّة سيئة وباقية فى تعاملنا مع الحكام، يستحق عليها من يتم إعلانه حاكمًا لمصر أن تصله برقيات تعزية؛ وإن كان الدوار قد أصابنا من الطواف حول الحكام لسبعة آلاف سنة، فإن الشفاء منه ليس فى اتخاذهم هدفًا لرمى الجمرات لسبعة آلاف أخرى. الشعب المصرى خرج فى الثورة بإرادة حرة، وبغير قيادة، فلا الدكتور مرسى أخرج المصريين ولا الإخوان أخرجوهم، ولا حمدين، ولا البرادعى، ولا الشيخ حازم؛ لا أحد من هؤلاء أخرج المصريين ولا أحد منهم يدعى أنه يُوحى إليه، بخلاف الأمر ما بين موسى– عليه السلام- وشعبه، لذا فعلى الشعب المصرى أن يدفع ثمن الخروج الملائم، وهو شىء من الصبر والتكاتف والإحساس بالمسئولية، أما (أوذينا) المبكرة جدًا التى (تزن على الودان) من أجل عصيان خطير وحريق ممتد، فهى مؤشر خطير على ما هو أفدح من فشل الدكتور مرسى تحديدًا، إنها مؤشر على فشل أى قيادة قادمة، إنها مؤشر على دخول مصر فى مرحلة محمومة من حرق الكوادر، ستنتهى بأن يفقد الشعب إيمانه بالثورة وإيمانه بالحرية وإيمانه بمصر الجديدة وإيمانه بنفسه، وعليه سينتصر سحرة الدولة العميقة قبل أن يلقوا كل ما لديهم من حبال وعصى؛ لأن الثوار تفرغوا لبعضهم بعضًا فى ساحة العروض الرخيصة، فغسل الشعب يديه من الجميع. أشهد أن موسى نبى، والدكتور مرسى ليس كذلك، وأعلم أن ما لايصح مواجهة الأنبياء به من عوارض الضعف البشرى وعدم القدرة على الخوض فى الشدائد، يمكن مواجهة الرؤساء المنتخبين به، حتى ولو فازوا فى انتخابات نزيهة، وبالطبع يمكن مواجهة المنقلبين على الشرعية به، لذا ف(أوذينا) المبكرة جدًا التى كانت من نصيب الدكتور مرسى، هى فى انتظار من سينقلب عليه، إن نجح فى الانقلاب عليه.. (أوذينا) المبكرة جدًا واللحوحة هى الجلوكوز المعلَّق على سرير العهد البائد، وهى الخرطوش فى يد البلطجى، وهى الشىء الذى يمكنه أن يجعل من مصر (حتة مقطوعة)، هى كل هذا حتى ولو قيلت من ثوريين لايزعجهم إلَّا الانتخابات اللعينة، التى تأتى بإسلاميين. لا يوجد أى شىء من الحكمة، التى يتخيلها البعض فى تورطه فى خرق سفينة المساكين المصرية، التى تبحر بالجميع، وآخر من كان له الحق فى ادعاء ذلك هو الرجل الصالح، الذى التقاه نبى الله موسى، فإن كان مرسى ليس كموسى، فالمخربون الإيديولوجيون ليسوا كالرجل الصالح. كل ما يمكن مطالبة المتأكدين من فشل مرسى فى نهاية الأمر، والمؤمنين بأنهم يحوزون عصا موسى، بل والتابوت الذى فيه السكينة، هو أن يصبروا من أجل مصر، لأنه لا داعى لشحن الناس المستمر والعصبى ب(أوذينا) قبل أوانها طالما أنه يمكن أن تقال فى وقتها فى إطار محاسبة وطنية نزيهة ناضجة وغير متشفية، ولأنه لا داعى لاستلام السفينة وهى مستقرة فى قاع البحر طالما أنه يمكن استلامها عائمة كيفما اتفق. شىء من الانتباه قبل فوات الأوان؛ فالدولة العميقة برموزها، وبخيلها ورجلها وبكامل لياقتها وراء الجميع تتقدم لابتلاع كل المارقين على اختلاف اتجاهاتهم، فإننا وإن كنا قد عبرنا إلى بر جديد بقدرة قادر، إلَّا أننا نسينا - فى اختلافنا وتنافسنا وضيق أفقنا وجمودنا المرجعى ومزايداتنا على بعضنا البعض- أن نترك البحر رهوًا"! تلك رسالة الصديق المبدع محمود توفيق حسين، وقد نحيت قلمى بعيدا لأجعل تلك الزاوية كلها له.