أحياناً، يحار المرء فيما يكتب، من..؟ لماذا..؟ ماذا..؟ أين..؟ ومتى..؟ وكيف..؟ إلى آخر عناصر القصة الصحفية أو الخبرية، سواء كانت بطريقة "الهرم المقلوب" كما درسه لنا أساتذتنا الأوائل، أو "المعدول" حينما حاول البعض أن "يتأستذ" لاحقاً، أو بأى طريقة، كتلك التى تعلمناها وحفظناها عن "زهر كلب" كما تقول مذيعة مشهورة وهى تعنى "ظهر قلب"، ما جعلنا نفنى سنين طويلة من عمرنا فى الدرس والتجريب والممارسة... وفى النهاية قد ييأس البعض منا، ويرى التوجه الأفضل كما فعل زميل دراسة فى كلية الإعلام بجامعة القاهرة، حينما لجأ إلى أن "يلزق قيشانى"، أفضل مادياً من الجرى وراء سراب التعيين فى إحدى الصحف لأن "مالوش ظهر"، وليس على استعداد لأن يقضى سنوات إضافية من عمره يعمل تحت التمرين. "فلاحة الأرض" بحثاً عن سنبلة قمح، أو ربما عقاباً لاستئصال شوكة تنبت فى حلق وردة، ربما كانت أفضل احتجاج لبعض صحفيى الكونغو قبل سنوات، حين هرولوا لنيل الأراضى بدلاً من "نبل" الصحافة التى قد تجر "القتل"، مثلما يحدث فى بعض دول العالم الثالث.. أو على الأقل محاولة "الضرب" أو السجن كما تعرض له صديق ذات مرة عقاباً على خبر ما. ولأن كل المهن المعروفة قد لا "تأكل خبزاً".. إلا أن الصحافة بالذات تعتبر بالنسبة لى على الأقل العقاب الوحيد فى حياتى، بحيث إننى أحس بالفشل عند مجرد محاولة "امتهان" أى مهنة أخرى، ولو كانت مجرد تجارة الشاطر حسن أو حتى "على بابا والست مرجانة" التى خسرت فيها كل ما أملك وكان شلناً فى دقيقة واحدة، حينما اعتقدت يوماً أننى ذكى أمام حركات بائع الثلاث ورقات فى أحد ميادين الإسكندرية و"صادقت" على غبائى غير المحدود لما سمعت قهقهة من هم حولى، فكانت درساً لا ينساه من اعتقد يوماً أنه رجل فى العاشرة من عمره.. أغاظه صديقه المزعوم بقطعة شيكولاتة فلم يملك إلا أن يمصمص شفتيه، ليس على الخسارة فقط وإنما على الحرمان أيضا! *** الصحافة، بعد أكثر من ربع قرن من الممارسة أصبحت "مقلباً" كئيباً ليس للقمامة كما يخيل لبعض الصائدين فى الماء العكر ولكنها تعتبر "خازوقاً" أشهر من "خازوق سليمان الحلبى".. أحلام الصبا والشباب.. الشعر المسترسل.. البنطلون الجينز.. وفورة الشهرة المزعومة لمجرد نشر الاسم ب "بنط 9 " أبيض أو أسود.. حيث لا فرق الآن فى الاستنساخ أو الانبعاج أو الانبطاح.. يعنى "كله ماشى يا تاج راسى" و"على حسب وداد قلبى" و"اتفضل شاى" كلها سقطت بعد انكشاف مستور القيم والمثل التى غرسها فينا أساتذة الإعلام الأوائل. بصراحة مفجعة، صحافة "ريح بالك يا مواطن" لم تعد تغرس المواطنة، لذا لا يصدقها أى مواطن.. وأوراد وتعاويذ "إديها ميّة تدّيك طراوة" أصبحت عديمة القيمة بعد انتشار ثقافة "التكييف" ودعوات "التكيف" مع الواقع وسهولة توافر "الكيف" ليس فى الحدائق الخلفية، إنما أصبحت علناً، خاصة وأن الفضائيات تكفلت بالمهمة الأشد صعوبة، وهى تسطيح العقل العربى وإفهامه أن الفيديو كليب بات وسيلتنا الحقيقية لمواجهة أى تحدٍ، وأن الأجساد شبه العارية أنموذج رائع لتجاوز حالة السلبية التى غرستها بشكل عكسى نصيحة الراحل محمد رضا حينما أثار شجوننا فى حملة قديمة لمواجهة البلهارسيا بقولته الشهيرة "إدى ضهرك للترعة" حتى أصبح الواحد منا يعطى ظهره لأشياء كثيرة تجنباً للممنوع أو إثارةً له، و"طنش تنتعش". باتت حالة السلبية لعبة مسلية، وباتت أنشودة التغييب مشروعاً وطنياً بامتياز يشارك فيه الجميع، المسئولون لا يغادرون كراسييهم لأنهم تعودوا عليها، والشباب اليائس يقلد حيوانات الفقمة فى عملية انتحار جماعى، باسم الهجرة إلى الشمال، وثروتنا تعود إلينا من على زوارق الموت جثثاً سعيدة الحظ، منها ما تركت أسماك البحر المتوسط بعضاً منها لنعرفه، وشباب فى عمر الورد لجأوا ليعملوا فى إسرائيل، بحثاً عما لم يجدوه فى وطنهم من رزق أو.... كرامة! الصفحات الأولى فى الصحف، ما زالت رغم ألوان العناوين والإعلانات مجرد صفحة وفيات كبيرة وعملاقة، تنعى وطناً بأكمله.. كان يوماً قبلة ومئذنة، والصفحات الداخلية أصبحت عبارة عن قميص نوم شفاف جداً، وهشاً للغاية، وما تحته، لا يزال مجرد "خبر أسود" مطبوخ بمهنية وحرفية (كما لا يزال يصر صديق) على ورق أبيض، كان يوماً ما "طيب القلب".. كفلاح يجلس على حافة العشب ويأمل خيراً فى موسم حصاد لا تأكل الطيورُ إياها نصفه ؟! حبر أسود و "مهبب".. يلطخ يد قارئ بسيط دفعته العادة اليومية لا الشهرية كى لا يساء الظن على دفع ثمن الصحيفة.. "أى صحيفة" ربما بدل بعض أرغفة الخبز، بحثاً عما قد لا يريح باله.. وكأنه بالقراءة يسد رمقه ويسد جوع بطنه! ألم أقل إننا أحيانا نشترى "وجع الدماغ" ونحن بكامل إرادتنا ووعينا، ونبحث بجدية عما يجلب لنا الصداع والصرع والضغط والسكر والكوليسترول والقلب و"الزفت" التدخين! فالأخبار المتتالية لا تسر عدواً ولا حبيباً.. ونحن المغلوبون على أمرهم، نجلس القرفصاء بحثاً عن مسحوق "رابسو" لينظف كل الملابس المترهلة، لعلّه يُغيّر ما بقوم لم يستطيعوا أن يغيروا أنفسهم. *** صحيح ... مساكين هؤلاء الصحفيين.. شهرة على الفاضى.. فى صحافة أونطة! وفى النهاية هناك قارئ ما يزال يجلس على القهوة العربية.. فى أى حارة أو شارع أو "غرزة" ينظر لنشرة أخبار عقيمة، ويقلب صفحات جريدته المفضلة، بعد أن يضع ساقاً على ساق.. ثم.. كوب من شاى أسود.. أو فنجان من القهوة.. الرماد.. ...ونفس عميق من سيجارة رديئة.. تصفيقتان متسارعتان تسبقان نوبة سعال مزمنة مع نظرة محمومة إلى داخل القاعة.. وصوت يتحشرجُ بصعوبة.. أنت يا زفت يا عم عبده: واحد " مقال " وصلحه !