وكالة سونا تبرز تكريم الرئيس السيسي لوزير الأوقاف السابق بدولة الصومال    «أنا مسامح والدها».. صلاح التيجاني يكشف ل«البوابة نيوز» سر انفصال والديّ خديجة ومحاولته للصلح    متحدث الحكومة: تكلفة أنبوبة البوتاجاز 340 جنيهًا وصعب استمرار بيعها ب100 جنيه    واشنطن وباريس تدعوان لخفض التصعيد على الحدود اللبنانية الإسرائيلية    عماد الدين حسين: القرار الأممي بإنهاء احتلال فلسطين خطوة مهمة لحصار إسرائيل    الزمالك يكشف حقيقة تواجد فتوح بقائمة لقاء بطل كينيا    في حال ثبوت إدانته| استبعاد مانشستر سيتي من جميع بطولات الموسم    الطب الشرعي يفحص جثة مسن توفي أثناء مشاجرة بكرداسة    أختل توازنها فسقطت من الدور السابع.. تفاصيل مصرع سيدة بشبرا الخيمة    الصحة: عدم وجود ارتباط وبائي لجميع الحالات المصابة ب«وباء أسوان»    وزير الثقافة يتلقى تقرير نتائج اجتماع أعمال الدورة ال13 للجنة المصرية الكويتية    نصر الله يُحذر إسرائيل من عودة سكان الشمال: ما حدث إعلان حرب.. فيديو    محمد سلام ينفي شائعات تعاقده على فيلم جديد    مستشفى «حروق أهل مصر» يعزز وعي العاملين بالقطاع الصحي ضمن احتفالية اليوم العالمي لسلامة المرضى    الصحة: حجز 63 مريضًا بالنزلات المعوية في المستشفيات    ماذا يحدث في الطقس قبل انتهاء الصيف رسميًا    7 أبراج مواليدها هم الأكثر سعادة خلال شهر أكتوبر.. ماذا ينتظرهم؟    خالد الجندي يحكم المثل الشعبي "طلع من المولد بلا حمص"    أمين الفتوى: سرقة الكهرباء حرام شرعا وخيانة للأمانة    عاجل.. تطور مفاجئ في الانتخابات الأمريكية بسبب العرب.. ماذا يحدث؟    الخارجية الأمريكية: الولايات المتحدة تعمل مع حلفائها لوقف التهديدات بالشرق الأوسط    تعرف على شروط الانضمام للتحالف الوطنى    الزراعة والبيئة يتابعان منظومة جمع وتدوير قش الأرز ومكافحة السحابة السوداء بالشرقية    وديًا.. غزل المحلة يفوز على التحدي الليبي    رئيس الإنجيلية يلتقي محافظ المنيا لتهنئته بتولي مهام المحافظة    موقف إنساني ل هشام ماجد.. يدعم طفلًا مصابًا بمرض نادر    تكاليف مواجهة أضرار الفيضانات تعرقل خطة التقشف في التشيك    التحالف الوطني للعمل الأهلي يوقع مع 3 وزارات لإدارة مراكز تنمية الأسرة والطفولة    مرصد الأزهر يحذر من ظاهرة «التغني بالقرآن»: موجة مسيئة    الدكتورة رشا شرف أمينًا عامًا لصندوق تطوير التعليم بجامعة حلوان    حكايات| شنوان.. تحارب البطالة ب «المطرقة والسكين»    مركز الأزهر للفتوى: نحذر من نشر الشذوذ الجنسى بالمحتويات الترفيهية للأطفال    مدبولي: الدولة شهدت انفراجة ليست بالقليلة في نوعيات كثيرة من الأدوية    سكرتير عام مساعد بني سويف يتفقد المركز التكنولوجي وأعمال تطوير ميدان الزراعيين    الزمالك ينتظر خطوة وحيدة قبل التحرك القانوني ضد الجابوني أرون بوبيندزا    بينها التمريض.. الحد الأدنى للقبول بالكليات والمعاهد لشهادة معاهد 2024    التغذية السليمة: أساس الصحة والعافية    محاكمة القرن.. مانشستر سيتي مهدد بالطرد من جميع مسابقات كرة القدم    عاجل| رئيس الوزراء يكشف تفاصيل حالة مصابي أسوان بنزلة معوية    «المركزي» يصدر تعليمات جديدة للحوكمة والرقابة الداخلية في البنوك    من هن مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم وإِخوته في الرَّضاع وحواضنه؟ الأزهر للفتوى يجيب    أول ظهور لشيرين عبدالوهاب بعد أنباء عن خضوعها للجراحة    "الموت قريب ومش عايزين نوصله لرفعت".. حسين الشحات يعلق على أزمتي فتوح والشيبي    بنك إنجلترا يبقى على الفائدة عند 5 %    برلماني عن ارتفاع أسعار البوتاجاز: الناس هترجع للحطب والنشارة    "ناجحة على النت وراسبة في ملفات المدرسة".. مأساة "سندس" مع نتيجة الثانوية العامة بسوهاج- فيديو وصور    عاجل| حزب الله يعلن ارتفاع عدد قتلى عناصره من تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية ل 25    مركز الأزهر: اجتزاء الكلمات من سياقها لتحويل معناها افتراء وتدليس    "بداية جديدة".. تعاون بين 3 وزارات لتوفير حضانات بقرى «حياة كريمة»    انطلاق المرحلة الخامسة من مشروع مسرح المواجهة والتجوال    وزير التعليم العالي: لدينا 100 جامعة في مصر بفضل الدعم غير المحدود من القيادة السياسية    لبحث المشروعات الجديدة.. وفد أفريقي يزور ميناء الإسكندرية |صور    انتشار متحور كورونا الجديد "إكس إي سي" يثير قلقًا عالميًا    3 شهداء خلال حصار الاحتلال منزلا في قباطية جنوب جنين    إخماد حريق نتيجة انفجار أسطوانة غاز داخل مصنع فى العياط    دوري أبطال أوروبا.. برشلونة ضيفا على موناكو وآرسنال يواجه أتالانتا    «الأمر صعب ومحتاج شغل كتير».. تعليق مثير من شوبير على تأجيل الأهلي صفقة الأجنبي الخامس    مأساة عروس بحر البقر.. "نورهان" "لبست الكفن ليلة الحنة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كامب ديفيد فى فكر داعية، فى شبابه وشيخوخته
نشر في اليوم السابع يوم 04 - 04 - 2009

ولدت فى أسرة وطنية متدينة تعشق الدين والوطن، وتعيش كل همومه وآلامه وأحزانه، ورغم أن والدى كان موظفا بسيطا إلا أنه كان دائم الانشغال بقضايا الوطن، كما أن شقيقى صلاح إبراهيم كان ممن عبروا القناة فى حرب أكتوبر 1973 وأصيب فى هذه المعركة، كما أن ابن خالتى الشهيد مراد سيد عبد الحافظ "نحسبه كذلك ولا نزكى على الله أحد"، هو واحد من تسعة فقط على مستوى مصر كلها حاصل على أعلى وسام عسكرى مصرى وهو وسام "نجمة سيناء".
وكنا كذلك فى صغرنا، حيث كانت الوطنية والرجولة ومقاومة الاستعمار وتحرير فلسطين هى أهم إدراكاتنا حتى قبل الانتماء للحركة الإسلامية.
وقد كانت الأغانى الوطنية الحماسية فى شبابنا تزيدنا توهجا ورجولة وحماسة قبل دخول الحركة الإسلامية، وكانت الأناشيد الإسلامية بعد دخولنا الحركة الإسلامية تجعلنا نقبل التضحية بكل شىء من أجل الإسلام العظيم، فيهون العمر والوقت والشباب والصحة ودخول السجون وكل شىء من أجل رفعة هذا الدين ونصرة شريعته.
وكنا وما زلنا نتوق إلى اليوم التى تتحرر فيه أرض فلسطين كلها من النهر إلى البحر كما يقولون، وندخل القدس، ونصلى فى رحاب المسجد الأقصى – أول الحرمين وثالث القبلتين - ونرى فيه ما كنا نصبو إليه طوال أعمارنا كلها.
وقد كنت أظن فى بداية شبابى ومقتبل صباى، أن كل حروب مصر مع إسرائيل كانت من أجل تحرير فلسطين، وهو ما أعتبره اليوم مخالفاً لحقائق التاريخ التى لم أحط بكافة جوانبها فى تلك الفترة المبكرة من سنى حياتى، فلم أكن قد قرأت بعد تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية قراءة علمية موثقة، حيث درستها بعد ذلك دراسة مستفيضة من عدة مصادر تاريخية وكتابات موثقة فى المعتقل، بدءاً من حرب 1948 وحتى حرب سنة 1973.
كما أننى كنت أظن أن تحرير فلسطين كلها هو أمر ميسور، وفى إمكان مصر حتى وحدها أن تقوم به، كما قامت من قبل بهزيمة التتار والصليبيين.
وهذا كان تسطيحاً للأمور وتبسيطاً مخلاً لها، حيث إن هزيمة صلاح الدين الأيوبى للصليبيين وهزيمة قطز للتتار جاءت ثمرة جهود تربوية حثيثة شملت شتى بقاع العالم العربى والإسلامى لتهيئة الأمة وإعدادها لتكون أهلاً للنصر، وقام على أمرها علماء ومصلحون عظام سطر التاريخ بذلهم وعطاءهم، وأتت بعد سنوات طويلة من الحرب والصلح، والقتال والهدنة، وفى ظروف توحد شبه كامل لمصر مع الشام والحجاز يندر وجوده الآن فى ظل هذا الوضع الإقليمى والدولى، والذى تعقد كثيراً بعد هيمنة الولايات المتحدة على السياسة الدولية كقوة عظمى وحيدة حتى الآن، بعد أن تفكك الاتحاد السوفيتى المنافس لها، وأصبح أثراً بعد عين.
وقد تطوعت للقتال فى شبابى، وأثناء حرب أكتوبر سنة 1973، وكنت وقتها طالباً مستجداً بكلية الطب، رغبة فى نيل الشهادة فى سبيل الله فى حرب يعتبرها جيلى حتى اليوم من أجمل لحظات حياته كلها، ولكن طلباتى وآخرين للتطوع رفضت لأنه لم يسبق تدريبنا، رغم أننى كنت من أوائل دفع الثانوية العامة التى تخرجت وتدربت فى الثانوية العسكرية، ووقتها كان التدريب جاداً وعميقاً ومفيداً.
وعندما قام الرئيس السادات بالذهاب إلى القدس، ثم بعد ذلك وقع اتفاقية كامب ديفيد، كانت الحركة الإسلامية كلها فى خندق واحد مع الحركة الوطنية المصرية ترفض هذه الاتفاقية، وتحاربها بكل ما أوتيت من قوة، وكنا وقتها فى منتهى الفتوة والحماسة والقوة.
وكان رفضنا قوياً عنيفاً تمثل فى مظاهرات ومؤتمرات فى الجامعة والمساجد وفى كل مكان، وكان معظم خطباء الحركة الإسلامية فى ذلك الوقت ضد هذه المعاهدة، واليوم، وفى كل عام تمر فيه ذكرى كامب ديفيد.
وقد سألنى بعض الصحفيين الإسلاميين أو المقربين عن رأيى الآن فى كامب ديفيد، وهل ثمة تغير حدث فى رأيى طوال هذه السنوات؟ وإذا حدث تغير، فما هى أسبابه ودوافعه؟ ولماذا كنا نعارضها من قبل وما مسوغات هذه المعارضة؟!. ، إلخ.
هذه الأسئلة التى تلح علىَّ كل عام فى ذكرى كامب ديفيد، وقد رفضت الإجابة عن هذه الأسئلة للصحفيين بالذات خوفاً من تشويه الحقائق، وإخفاء بعضها، حيث تعمد الصحافة أحيانا لإبراز جزء من الخبر وترك بعضه لإثارة القارئ وتشويقه، وربما كان هذا الجزء المستور هو لب القضية وفصل الخطاب، ولكن الصحافة فى بعض أحيانها لا تلتفت لدقة النقل وأمانة العرض قدر ما تهتم بعنصر الإثارة والتشويق، وكذلك بعداً عن مزايدات المزايدين علينا وهم كثيرون، ولأن كثيراً من الشباب عامة والإسلامى خاصة "يأخذون رأس القبة ويطيرون" على رأى المثل المصرى العامى الشهير، والذى يعنى أنهم لا يدرسون الموضوع جيدا، ولا ينقلونه على وجهه الصحيح، ويشوهونه تشويها "عن غفلة أو عمدا"، ثم يطيرون بفهمهم السقيم للأمر إلى الآفاق ليشوهوا بذلك سمعة الآخرين بغير حق.
ولكننى استخرت الله، ورأيت أن أكتب فى هذا الأمر ما كنت أشرحه لبعض إخوانى الثقات فى المعتقل، والذين كانوا يسعدون بهذا الفهم، عسى الله أن ينفع به الشباب المسلم، والآن أبدأ مشواراً فكرياً مع كامب ديفيد بهذا الترتيب الزمنى:
عندما وقعت اتفاقية كامب ديفيد فى السبعينيات كنا من أوائل المعارضين لها مع كل أطياف الحركة الإسلامية، وكذلك كل فصائل المعارضة السياسية فى مصر وقتها.
وقد عقدنا عدة مؤتمرات فى الجامعة وخارجها وفى كل فروع الجامعة لمناهضة هذه الاتفاقية وبيان سلبياتها وعوراتها، وقد كان الوجه الأساسى لمعارضتنا منصباً على عدة نقاط رئيسية منها:
أن الصلح مع إسرائيل غير جائز شرعاً.
أن توقيع مصر على هذه الاتفاقية يعطى المشروعية لدولة إسرائيل للسيطرة على الأراضى الفلسطينية.
أن الاتفاقية تخرج مصر تماماً من خندق الدفاع عن فلسطين أو أى دولة عربية تحاربها إسرائيل مستقبلاً.
أن الاتفاقية تعطى إسرائيل والولايات المتحدة حليفتها حقوقاً غير مشروعة على أرض سيناء، ولا تحقق لمصر السيادة الكاملة على أرض سيناء.
أن الاتفاقية تخرج مصر من المنظومة العربية الإسلامية إلى المنظومة الغربية.
ولكننى، وبعد دخولى السجن، ودراستى المتعمقة للقضية برمتها، وللصراع العربى الإسرائيلى من أوله إلى آخره، وبعد دراستى المتعمقة للفقه الإسلامى، وكذلك القانون الوضعى والقانون الدولى، تبين لى الآتى، وهذا رأيى الشخصى، وأنا لا أتكلم هنا عن رأى الجماعة:
أولاً: أباحت الشريعة الإسلامية الصلح مع كل أحد، مسلمين وغير مسلمين، ويهود ونصارى وبوذيين، وأى ملة مهما كانت.
أما ما يظنه بعض شباب الحركة الإسلامية من السبعينيات وحتى اليوم، بعدم جواز الصلح مع اليهود أو غيرهم، فهو كلام سياسى ولا يمت للفقه الإسلامى بصلة.
ثانياً: الضابط فى الصلح مع أى عدو من اليهود أو غيرهم من أى ملة هو تحقيق أكبر قدر من المصلحة الشرعية للأوطان المسلمة، ولذا أجاز الفقهاء الصلح - حتى على الشرط الجائر - ما دام ذلك يصب فى مصلحة للإسلام والمسلمين ويحققها.
وقد استدل هؤلاء الفقهاء مثل ابن القيم على ذلك بقبول الرسول صلى الله عليه وسلم للشروط المجحفة فى صلح الحديبية رغم رفض كثير من الصحابة لذلك، وكراهيتهم للصلح فى بدايته، ثم قبولهم به ورضاهم عنه فى نهاية المطاف.
إن اتفاقيات الصلح إنما تعبر عن واقع كل قوة على الأرض، ولا تعبر عن حق وباطل، وهناك فرق بين الحق المطلق وبين ما يفترضه الصلح على الأطراف، أى أن هناك فرقاًَ بين المشروعية الدينية للأمور والمشروعية الواقعية.
فاحتلال إسرائيل لفلسطين غير مشروع من الناحية الدينية، ومن ناحية الحلال والحرام، ولكنه أمر واقع، وتعاطيك مع هذا الواقع لا يمنحه المشروعية الدينية، وإقرار الدولة بوجود إسرائيل كدولة فى إحدى المعاهدات هو إقرار للواقع وليس بياناً لحكم شرعى، وهو يختلف عن الإقرار الشرعى الدينى، وهذا يحل الإشكالية التى تتولد لدى الشباب المسلم الذى يتخبط فى هذا الأمر.
وقد قام صلاح الدين الأيوبى هو ونور الدين محمود بعقد معاهدات كثيرة مع الصليبيين، أقرهم فيها على بعض الإمارات الصليبية التى احتلوها عنوة وقسراً ودون وجه حق، وكانت هذه المعاهدات فى مجملها توقف التقاتل بينهم، وتقر كل من الطرفين على ما يحوزه من بلاد.
وكان صلاح الدين الأيوبى يوفى لهم بذلك، ولم يعترض أحد من العلماء والفقهاء فى عصرهما على ذلك، بحجة أنه إقرار شرعى للصليبيين على احتلال بلاد المسلمين، فلا علاقة بين المعاهدات التى تخط شروطها موازين القوى، وبين الإقرار الشرعى أو الأحكام الشرعية، ولكنها إقرار واقعى مؤقت توجبه المصلحة وتفرضه موازين القوى.
تبين بعد سنوات طويلة من البحث والدراسة، أن كامب ديفيد رغم سلبياتها الكثيرة إلا أنها كانت أفضل المتاح أمام مصر وقتها، وأن مصر بظروفها المحلية والإقليمية والدولية لن تستطيع أن تعيش باستمرار فى حالة حرب متصلة مع إسرائيل، وأنها لا تملك القدرة العسكرية ولا السياسية أو الاقتصادية لتحرير فلسطين كلها، وأنها لم تسع فى حرب من حروبها لتحرير فلسطين.
وقد تبين لى ذلك بجلاء من دراستى المستفيضة لحرب 48 و56 و67 و73، فلم تدخل مصر هذه الحروب كلها لتحرير فلسطين، ولكنها دخلت لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية واقتصادية خاصة بها.
أما من يقول إن مصر دخلت حرب 1948 لتحرير فلسطين فهو واهم، ويمكنه الرجوع إلى محضر جلسات القيادة العليا للجيش المصرى بقيادة الملك فاروق عند بداية حرب 48، حيث قال صراحة للقوات المتوجهة لقتال إسرائيل: "أنا دخلت الحرب محرجاً من الملوك والحكام العرب ولم أكن أريد الدخول فى هذه الحرب، ولذلك أرجو ألا تدخلوا فى أى اشتباك جدى مع القوات الإسرائيلية"، راجع كتاب "حرب 1948" للباحث العسكرى لواء د.إبرهيم شكيب.
ورغم ذلك كله فقد أبلت القوات المصرية بلاء حسناً فى فلسطين، ولولا الإمكانيات الضعيفة والتسليح الضعيف الذى كان معها لكان لها شأن آخر.
إن مجرد الاعتراض على صلح أو اتفاقية تفرضها موازين القوى ليس حلاً إيجابياً، وإنما هو لون من ألوان السلبية السياسية، وهب أننا اتفقنا مع المعارضين لكامب ديفيد، فما هو البديل الذى كان متاحاً وقتها؟؟!!، إن كل من عارضوا كامب ديفيد من الحكومات العربية، وعلى رأسها العراق وسوريا وغيرهما، لم يأت بأى بديل سياسى أو عسكرى جيد بدلاً منه، ولم تحقق أى دولة منهم أى مكسب يذكر على أى صعيد فى هذه الفترة يوازى كامب ديفيد رغم سلبياتها
ثالثاً: من المهم جدا عند التعامل مع الواقع استصحاب فقه الموازنات، لاسيما مع اختلاط المفاسد بالمصالح، وهو الأصل فى واقعنا المعاصر، فلم يعد من الممكن تحقيق المصلحة المحضة ودفع المفسدة المحضة، ولعل غياب مثل هذا النوع من الفقه عنا وعن الكثيرين حينما عقدت مثل تلك المعاهدة كان هو الدافع الأساسى لرفضها بصورة تامة ومجملة، فأذهان الشباب المتحمس ونفوسهم المتطلعة نحو الكمال والمثالية لا تحتمل حدوث صلح فيه أى نوع من الهضم أو الظلم للمسلمين، بل ترى فى حدوث ذلك نوعا من التنازل عن الحق والدنية فى الدين، ولعل مواقف شباب الصحابة من أمثال عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب فى صلح الحديبية خير شاهد على ذلك، وتلك كانت مشاعرنا بالضبط حينما عقدت المعاهدة، فقد رأيناها غير محققة لتطلعاتنا المثالية بغض النظر عن حساب موازين القوى وتشابكات العلاقات بين الدول، فكل ذلك لا يسترعى انتباه الشباب الغيور على دينه ووطنه وأمته، المهم أننا اليوم لو أردنا تقييم تلك المعاهدة بصورة موضوعية فسنجد أنها كانت أفضل الحلول المتاحة فى ذلك الوقت فى ظل إمكاناتنا المحدودة، وفى ظل الأوضاع العربية والإقليمية المتردية، والتى ازدادت سوءا وترديا بمرور الزمن.
وهب أننا أحجمنا عن عقد تلك المعاهدة، فما هو البديل وقتها لاسترداد الأرض المسلوبة – ولو جزئيا -، هل كنا سنواصل القتال ؟!! كان ذلك مستحيلا بعد مساندة القوى الكبرى لإسرائيل وتخاذل الصف العربى، أم كنا سننكفئ على هزيمتنا ونجلس فى دورنا نبكى حالنا دون إيجاد أى حل إيجابى.
إن الشباب أحيانا لا يقنع بغير المثال والكمال، وهذا أمر جميل، ولكن الشريعة الغراء علمتنا أن نسعى – عند تعارض المصالح والمفاسد – لتحقيق أعلى المصلحتين ولو كان فى ذلك تفويت أدناهما، ودرء أعظم المفسدتين ولو كان ذلك باحتمال أدناهما. .وهذا هو فقه الموازنات التى ربما تضيق به كثير من النفوس المتحمسة، وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية حين قال: "ليس العاقل الذى يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل هو الذى يعرف خير الخيرين وشر الشرين".
من السهل جدا المطالبة بإلغاء اتفاقية أو هدم صلح، فتلك النداءات التبسيطية تدغدغ عواطف الكثيرين وتجد لها صدى جميلا فى نفوسهم، ولكن من العسير الصعب أن يتحمل قائد ما عبء التفاوض مع أعدائه ومحاولة اقتناص مصالح أمته وأوطانه قدر المستطاع، ولو كان ذلك القدر اليسير الذى يحققه لا يرضى غرور الكثيرين من أبناء وطنه وأمته.
هناك أيضا نقطة مهمة تتعلق بتلك الاتفاقية، فمن المعروف فى عالم السياسة أن معاهدات الصلح التى تتم عقب الحروب لا تنشئ أوضاعا أبدية، وإنما تعبر عن موازين القوى التى عقدت فى ظلها تلك المعاهدات.
ومثل هذه المعاهدات تتحكم فى نتائجها وآثارها المستقبلية إرادة كل طرف من الأطراف، ومدى إصراره على بلوغ أهدافه العظمى وتحقيق أحلامه وتطلعاته، وصدق اللواء أمين هويدى رئيس المخابرات العامة المصرية الأسبق ووزير الدفاع الأسبق فى عهد عبد الناصر حينما رد على الذين يهاجمون كامب ديفيد: إذا تغير ميزان قوتك مزق هذه المعاهدة وأنشأ معاهدة جديدة تتلاءم مع ميزان قوتك الجديد، وكل دول العالم تفعل ذلك.
لقد اضطرت الإمبراطورية اليابانية لإعلان استسلامها الكامل بعد هزيمتها الساحقة فى الحرب العالمية الثانية، وقبلت التوقيع على صلح ملئ بالشروط المجحفة القاسية، ورغم ذلك لم تستسلم لواقعها وتنفض يديها عن مهمة السعى نحو النهضة والتقدم، وسرعان ما تجاوزت المحنة وعقدت العزم على فرض واقع جديد على الأرض تكون معه تلك الوثائق والمعاهدات التى وقعتها مرغمة مجرد حبر على ورق.
وها هى اليوم بعد ما يقرب من ثلاثة أرباع قرن من الهزيمة تتبوأ ذرى التقدم والنهوض العلمى والمادي، وتفرض بواقعها الجديد وضعا دوليا لم يحلم به اليابانيون عشية توقيع الإمبراطور اليابانى وثيقة الاستسلام.
إن الذين يحملون معاهدة كامب ديفيد كل السلبيات التى حدثت فى المجتمع المصرى كله بعد المعاهدة هؤلاء قد جعلوا منها شماعة للتخلف والرشوة والأمية والفساد والبيروقراطية وكل الأدواء التى ضربت المجتمع المصرى فى مقتل.
وهل كامب ديفيد أسوأ من معاهدات الاستسلام التى فرضتها أمريكا على اليابان بعد الحرب العالمية الثانية وحرمتها من امتلاك أى قوة عسكرية؟
ورغم كل السوء فى هذه المعاهدة فإن اليابان أصبحت من أعظم القوى الاقتصادية فى العالم، المشكلة إذا فينا نحن.
فهل كانت كامب ديفيد سبباً فى هذه النسبة الفظيعة من الأمية والرشوة والفساد الذى عم المجتمع المصرى بشكل مخيف، وما الذى كان يمنعنا من اتخاذ حالة السلم والأمان للبناء والتنمية للمجتمع المصرى بناءً صحيحا سليما من كل النواحى الاقتصادية والسياسية والعلمية والتكنولوجية؟.
وهل الدول العربية التى لم تعقد كامب ديفيد تقدمت أو تطورت أم أن شأنها شأن الآخرين فى كل المناحى السلبية؟.
وهذه تركيا لها أوثق العلاقات العسكرية والسياسية مع إسرائيل والغرب، ولكن كل شئ فيها يسير إلى الأمام وتتقدم الدولة باضطراد فى كل المجالات، المشكلة فينا نحن يا سادة فى الأساس.
أقول هذا لأن الكثيرين منا يقيمون المآتم فى ذكرى معاهد كامب ديفيد، حيث يخلطون دائما بين نتائج تلك المعاهدة، وبين تقاعسنا نحن عن النهوض ومحاولة امتلاك أسباب القوة، فقد باتت كامب ديفيد هى الشماعة التى نعلق عليها تدهور أحوالنا وترديها هروبا من مواجهة النفس بالتقاعس والتقصير فى حق هذه الأمة وهذا الوطن حكاما ومحكومين، وكثير ممن يعارضون الاتفاقية يرجعون كافة مظاهر تخلفنا وتراجعنا الحضارى عن عمد أو غير عمد لتلك الاتفاقية، وكأن اليهود بعدها أتوا إلى أوطاننا قيدوا أيدينا وأرجلنا بل وضمائرنا عن العمل فى سبيل النهوض والتقدم.
والحقيقة أننا نحن المتقاعسون عن العمل لرفعتنا ونهضتنا سواء كانت هناك معاهدة أم لا، إن الإصرار والتحدى والعزيمة إن وجدت لا تستطيع أى معاهدة أن تكبلها أو توقف سعيها، أما أصحاب العزائم الخائرة والهمم المستنيمة فلا يحتاجون لمعاهدات أو اتفاقيات إلا ليتحججوا بها على قعودهم وتكاسلهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.