تساءلت عن الطريقة المثلى للحزن، هل أبكى؟ كيف لى أن أجبر دموعًا أن تجرى على حواف الوادى، واد جاف، تيبست الأزهار على جنباته، وجذور الأشجار أصبحت متشققة، والعصافير تأتى على أمل قطرة ماء وتعود خائبة الأمل. قلت لنفسى هل أقترب لأسكب دمعى فى الوادى الحزين لتشرب العصافير، ولتنهض الجذور الميتة من سباتها العميق. أنا من بلاد بعيدة، بعيدة جدًا، بلاد ليلها جميل ونجومها براقة جدًا بكل الألوان، نهارها فى الصيف بارد وفى الشتاء دافئ. هناك الأطفال سعداء، يلعبون ويمرحون، لهم ملاعب واسعة، خضراء كمرج ابن عامر، بحرها هادئ يقص علينا قصصًا ليل نهار، أسماكه ودودة طيبة الطعم، طيوره تغرد وتشدو طوال الوقت، تنقل رسائل حب بين العاشقين، للأزهار فى بلدى روائح لن تعرف ماهيتها إلا إذا كنت تعيش هناك، للتراب رائحة المسك، والنملات تبنى قرى كبيرة فوق وتحت الأرض، يشعرن بأمان العيش. النساء والرجال كانوا سعداء دوما، لا هم لهم إلا أبنائهم وتأمين لقمة العيش الحلال، يخرج الرجل من منزله صباحًا ليعمل فى الأرض المحاذية للوادى، يحرثها ويقلبها مطولاً لتصبح حبات التراب ناعمة كطحين بلون بنى، والمرأة تساعده على زراعة المحصول، الذى سيطعمهم طوال عام، هكذا كنا وكانوا، كان الحب يحيط أفراد العائلة وهى تلتف حول وجبة الزيت والزعتر والزيتون، لم يكن لديهم خيارات أخرى، كانت هذه الوجبة أساسية، للإفطار والغداء والعشاء، وبين الوجبات إذا أردت، بالإضافة إلى قليل من الحنان ورشة من التعاون والرضا وملعقة كبيرة من الأخلاق العالية، التى طالما تميزوا بها وتكتمل السفرة. إلى أن تسلط عليهم مجموعة غادرة، غرباء من بلاد بعيدة جدًا، لا يعرفونها، غرباء ادعوا الفقر والتشرد والألم، غرباء تعاطفوا مع جراحهم ولم يحذروا نواياهم الطامعة. غافلنا هؤلاء وسرقوا أسماك البحر، أحرقوا الأشجار لما لم يستطيعوا إقتلاعها من الجذور، سرقوا أحلام الأطفال، مزقوا الكتب المدرسية، والوادى ما عاد يجرى، والطيور سجنت ولم يعد بمقدورها أن تغرد وكلمات الحب التى نقلتها سابقًا تحولت كلمات توسل وآهات من طيور كانت جريمتها أنها طالبت بحرية الأرض والإنسان، قتل العديد منه والجزء الآخر ظل خلف القضبان يشدو أناشيد حزن وألم على عمر انقضى، وعلى بحر كان حلمًا صعب المنال. أصبح الضحية الذى مثل على العالم دور الفقير والحزين والمتشرد، ووجد يد العون فى كل مكان، جلادًا، يقتل، يهدم بيوتاً عمرتها أيد طاهرة، ونفوس طيبة، يسرق الضوء من العيون ويحيل النهار ليل دامس، يقلب الدنيا رأسًا على عقب، يقلب فى كتب التاريخ ويتعلم أساليب تعذيب جديدة وطبقها على الفلاح المسكين، الذى لم يجمع محصوله بعد، زرع وجلس ينتظر وينتظر، ولكن انتظاره لم هباء. ولكن الانتظار سيعلمه أن لا يثق بمن يدعى الضياع والتشرد، وسيدفعه للتفكير قبل المساعدة دوما، ولكن ذاك الفلاح كان واثقًا من أن الشمس ستشرق من جديد، وأن غيمة قادمة من بعيد ستمطر لتملأ الوادى مياهًا عذبة، وستتحرر الطيور لتحلق فوق البحر وتتراقص الأسماك فرحًا بيوم جديد.