تركت مصر فى فترة تموج فيها بالحركة والثورة والغضب من كل شىء، والأهم أنى تركتها وهى مختلفة حول المستقبل، فلا الشعب اتفق على شىء، ولا حكامه الحاليون أعطوا للشعب المختلف خارطة طريق. تركت كل هذا وأكثر، وقررت السفر إلى بلاد تركب الأفيال، وتضم أرضها رفات غاندى، أحد حكماء البشرية وعظمائها، الذى استطاع أن يغير بلاده والعالم دون أن يرفع سلاحًا أو يشن حربًا، كان مجرد رجل نصف عار، كان ضعيف البنيان، ولكنه هز أركان إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وطردها من بلاده. كنت أمنى نفسى برحلة صفاء للنفس فى بلاد اليوجا، بعد أن أتعبتنى بلادى فى خنوعها أغلب سنوات عمرى، وأتعبتنى أيضًا من ثورتها الوليدة التى تاهت كثيرًا من معالمها. لم تكن تلك أول زيارة لى للهند، ولكنى حظيت بزيارتها قبل عقد من الزمان، لذا كنت أنتظر بشدة الزيارة الثانية لأعرف ماذا فعل الهنود فى عشر سنوات أو يزيد، مقابل ما فعله المصريون.. ولعجبى أننى كما وجدت كثيرًا من نقاط الالتقاء وجدت كثيرًا من نقاط الاختلاف الجوهرية جدّا. يا وابور قولى رايح على فين تحدد الإحصاءات أن أعلى نسبة عالمية فى حوادث القطارات تقع فى الهند ومصر، ومن العجب أنهما أول دولتين تعرفان السكك الحديدية، لذا قررت أن تبدأ أولى جولاتى فى بلاد طاغور وغاندى بالقطار من دلهى، حيث وصلت إلى ولاية أجرا محطتى الأولى، منيت نفسى برحلة فى قطار الشرق السريع، كما صورته لنا السينما فى أفلام مأخوذة عن روايات أجاثا كريستى، تصورت أن تجربة ركوب قطار فى الهند عبر ولاياتها المختلفة ستكون مصدر غموض وإلهام، خاصة أن القطارات فى شبه القارة الهندية وسيلة مواصلات رئيسية أكثر من مصر. لكن كل أحلامى وخيالاتى «السينمائية» تحطمت حين رأيت المحطة والقطار الذى سأستقله. فبرغم أنه درجة أولى فإنه يشبه - بل أقل فقرًا من - القطار القشاش فى مصر، مع اختلاف وحيد، وهو وجود مراوح، قيل لى إنها لا تعمل دائمًا. فلو قُدر لك أن تستقل قطارًا فى الهند فاعرف أن عجلة الزمن ستعود بك إلى الوراء فى بلاد تعد إحدى القوى النووية فى العالم، وسيدة صناعة السوفت وير، ومقدر لأسطولها البحرى فى عام 2012 أن يكون أقوى أسطول فى العالم، وصفات أخرى كثيرة عظيمة. ولكن ابتسم فأنت فى الهند، أم العجب، كما غنت لها سعاد حسنى، وما كذبت. أم طاغور وغاندى، وأم الفقراء الأكثر فى العالم، والأثرياء الأكثر أيضًا فى العالم، هى بلاد تركب الأفيال والتوك توك، كما تركب الصواريخ، وتصنع القنبلة النووية، وتمتلك من 80 إلى 100 رأس نووية.. تضم أراضيها بليونًا و215 مليون نسمة، والوحيدة التى يتحدث سكانها أكثر من 240 لغة مختلفة، ومئات اللهجات، وبها عشرات الديانات، على رأسها الهندوسية التى يدين بها 80 % من السكان، ثم الإسلام الذى يضم 10 % من السكان، ثم ديانات أخرى كثيرة، ما أنزل الله بها من سلطان. ديمقراطية الفقراء.. والأغنياء يمتنعون الهند أم العجب، فهى الدولة البرلمانية الرئاسية التى تمارس ديمقراطيتها كل خمس سنوات، رئيسها مجرد وجه بروتوكولى، وحاكمها الفعلى هو رئيس الوزراء الذى يأتى بالانتخاب من خلال البرلمان. ومن عجب أن تكون تلك الديمقراطية للفقراء فقط، فهم الذين يهتمون بالإدلاء بأصواتهم فى الانتخابات. أما أغلب الطبقة المتوسطة والعليا فعازفة عن المشاركة فى الديمقراطية، والشباب الهنديون الذين يمثلون 50 % من السكان، كما قال لى الكثير منهم، لا يملكون بطاقة انتخابية، لأنهم ناقمون على ارتفاع نسبة الفساد، ويرى أغلبهم أن الانتخابات تعتمد على رشوة الفقراء، وليس على أساس صحيح فى الاختيار. كنت على طول الطريق أشاهد إعلانات بدت لى أنها دعاية انتخابية، ففسرها لى مرافقى الهندى بأنها تهنئة من نواب البرلمان لمسلمى الهند بمناسبة عيد الفطر، وهى دعاية انتخابية فى ذات الوقت، وتصورت أننى سأبتعد عن مصر وأحاديثها عن الفساد السياسى والمالى الضارب فى أصولها والاعتصامات والإضرابات والانتخابات وبرامج المساء والسهرة المثيرة التى ترفع الضغط، ولكن يبدو أن القدر لم يكن متفقًا معى فى طلب الراحة، فقد وجدت فى أقصى بلاد الشرق ما تركته فى مصر، ولكن بالهندى. محاكمات وفساد وضحايا واجهت أول ما واجهت فى الهند أحاديث فساد سياسى ومالى، وبعض إضرابات فى الطرقات، وبرامج توك شو على مئات المحطات التليفزيونية الهندية الخاصة والقومية، والغريب والعجيب أن ضيوف هذه البرامج نسخة متشابهة تمامًا مع الضيوف المصريين المعتادين الذين هربت منهم، فها هو عمار على حسن الهندى، أى والله، بشحمه ولحمه وبحة صوته متحدثًا بالهندية، وها هو أيضًا عمرو حمزاوى، وتهانى الجبالى، ولكن بالبِندى، أى النقطة الحمراء التى يضعها الهنود على جباههم، وصدق أو لا تصدق، لكنه والله صدق، إن اختلافاتهم على الهواء وصراخهم فى وجوه بعضهم البعض مطابقة لما نراه على شاشاتنا تمامًا. كانت أهم الموضوعات المثارة فى الإعلام بشكل كبير جدّا قضية مودى حاكم منطقة جوجارات ورودلف إلمر البانكير السويسرى الذى أمد ويكيليكس بمستندات تدين 400 شخصية شهيرة هندية تهرب أموالها إلى سويسرا. مودى الهندى يواجه أهالى الشهداء أما الحكاية الأولى فهى تخص ناريندرا مودى، أحد مشاهير السياسة الهندية، وحاكم منطقة جوجارات، الذى يواجه اتهامًا بالتآمر لقتل عشرات المسلمين، عام 2008، فى حادث إرهابى، ثأرًا لحادث سابق لعدد من الهندوس، وحين ترددت شائعات عن ضلوع الحاكم فى التحريض على الثأر تم تكوين لجنة تحقيق خاصة لمتابعة ملابسات الحادث، وإعلان النتيجة، رغم أن اللجنة لم تصل إلى نتيجة مؤكدة لضلوع الحاكم، إلا أن أسر الضحايا رفعوا قضية فى المحكمة ضده وآخرين، نصيبى أن أترك محاكمات الحاكم فى مصر لأواجه محاكمات حاكم فى الهند بالتهمة نفسها، ولكن مع فارق واحد كبير، فحاكم الهند مودى أعلن يوم وصولى أنه سيصوم ثلاثة أيام من أجل أن يعم السلام المنطقة التى يحكمها، أما الحاكم المصرى ما صام إلا عن الكلام. 400 فاسد فى الهند يصنعون فضيحة أما القصة الثانية التى حصلت على البطولة الإعلامية فى الهند فهى تخص رودلف إلمر، موظف البنك السويسرى، الذى فضح النظام المصرفى السويسرى، ومنح آسانج وموقع ويكيليكس مستندات تدين عددًا من أثرياء العالم ومشاهيره من السياسيين، خاصة فى دول العالم الثالث. ظهر إلمر فى خبطة إعلامية على الهواء مباشرة فى إحدى المحطات الخاصة الهندية بعد الإفراج عنه بساعات، حيث تم سجنه من 2005 حتى يوم ظهوره. وقد كان السؤال الرئيسى حول أسماء ال 400 شخصية هندية التى أعلن أنها ضالعة فى تهريب وغسل أموال، ولم يعلن إلمر عن الأسماء، لأنه مهدد بالسجن والانتقام، ولكنه أعلن أنهم سياسيون، وبعض مشاهير رياضة الكريكت، ونجوم سينما، ورجال أعمال، فضيحة تضع نصل السكين على رقاب المشاهير، ولا أحد يستطيع تحديد متى تنفجر. تخيلوا بين مليار ويزيد 400 فاسد يصنعون فضيحة لمجرد تنويه بمناسبة نسب الفساد للسكان. نعم فى الهند يوجد فساد سياسى ومالى ورشوة، قد تبدأ من أصغر عسكرى مرور لرؤوس كبرى، ولكنه بالتأكيد مختلف عن الفساد المصرى، لأن ديمقراطية الهند لا تسمح له بالاستمرار سوى خمس سنوات، ثم تفضحه على رؤوس الأشهاد، عندهم فساد، وعندنا فساد، ولكنهم إلى جوار فساد بعضهم هناك إنجازات فى العلم ومجال التعليم، واكتفاء ذاتى فى لقمة العيش لشعبهم، وصناعة وطنية تضع اسمهم على قوائم المنافسة العالمية، وقنبلة نووية، وأشياء أخرى قد تغفر، أو على الأقل تخفف، كثيرًا من حدة فساد بعضهم. التوك توك والموتوسيكل سمعة طيبة فى الهند أفسدها المصريون ترتبط الهند فى عقول عامة المصريين بالسارى والكارى وأميتاب باتشان، أى سينما بوليوود، وهى بالفعل كل ذلك، وأكثر بكثير. الهند هى حضارة ضاربة فى التاريخ، لها موسيقى شعر طاغور، وحكمة غاندى، وعبقرية كليلة ودمنة، والأهم من كل ذلك مستقبل يخططون له. ربما سمحت لى ظروفى بسبب زيارة سابقة للهند قبل عقد من الزمان بأن أجرى مقارنة بين كيف كانت، وماذا أصبحت. قبل عقد من الزمان كانت العاصمة دلهى وأكبر مدنها مومباى من أكثر المدن تلوثًا فى العالم، حتى أننى كمصرية فى ذلك الوقت حمدت الله على درجة التلوث التى نعيش فيها مقارنة بالهند، ولكن بعد عشر سنوات لم يعد تلوث الهند كما كان، بل صارت مدن الهند تتمتع بجو نظيف، مقارنة بالقاهرة، فهى تستخدم الغاز الطبيعى فى أغلب المركبات، ومنعت التدخين، حتى فى شوارعها، ولكن تظل القمامة وأحوال الطرق أفضل فى مصر، الحمد لله. فى زيارتى الأولى حين عدت للقاهرة شعرت بأنها فارغة من السكان، طبعًا تأثرًا بالزحمة فى دلهى ومومباى، ولكن فى زيارتى الثانية لم أشعر باختلاف كبير بين زحام عاصمتهم وزحام عاصمتنا، وهم فى البليون، ونحن مازلنا نلعب فى الملايين. فى الهند استطاعوا أن يوظفوا الريكشا، وهو اختراع هندى - أو التوك توك بالمصرى - والموتوسيكل، لقهر الزحام. فشركة باجاج، أكبر منتج فى العالم للمركبات ذات الثلاث عجلات، شركة هندية، وهى رابع أكبر مصنع فى العالم للدراجات البخارية، وقد أتيحت لى فرصة لزيارتها، صراحة حاجة تشرح القلب، ينتجون 100000 موتوسيكل و200000 توك توك شهريّا، ويصدرون 35 % من إنتاجهم للخارج، وعلى أبواب مصانعهم عبارة تقول: «نحن فخورون ببلدنا، ونعمل من أجل أن تفخر بنا بلدنا». يأتى هذا فى الوقت الذى أساء فيه المصريون للتوك توك، وآذوا سمعته، وهو برىء، فهو وسيلة انتقال آمنة رخيصة، والأهم أنه يسير لديهم بالغاز الطبيعى، لذا فهو صديق للبيئة، أما عندنا فهو وسيلة بلطجة مرورية، وسرقات، وجرائم، وتلوث، رغم منفعته لكثير من الفقراء الذين تحرمهم الدولة من خدمة المواصلات العامة. العيب فينا إذًا، وفى سوء الاستخدام، وليس فى الوسيلة التى تطاردها الدولة، وكثير منا، لأننا لا ندرك معنى احتياج كل إنسان لوسيلة مواصلات يبلغ بها بيته، وأيضًا فرصة عمل قد توفر حياة كريمة لعدة أسر تعيش على دخل التوك توك.. لا يمكن أن تستمر الحياة فى القاهرة والمدن الكبرى كما هى، فقد تحولت لجحيم لا يطاق، وعلينا أن نعيد منظومة شوارعنا وعقولنا التى ترى أن السيارة وحدها هى الوسيلة الآمنة والمعيار للتقييم الاجتماعى والطبقى فى مصر. على الدولة والمجتمع والإعلام أن يعيدوا صياغة العقل المصرى، على الأقل لدى الشباب، وأن امتلاك موتوسيكل أفضل من سيارة، ولكن هذا باحتياج لعمل كثير، وتحدّ أكبر، فهل نحن قادرون عليه من أجل أن نستطيع الحياة فى مدننا؟