لم يشأ القدر أن يمهله مزيدًا من الوقت، ليشهد بأم عينيه أبناء موسم ربيع الثورات العربية وهم يحصدون أولى ثماره، فيمنحهم بما يجود عليه قلمه، وخاصة أبناء وطنه مصر، رحل هادئًا، فقط استيقظ من نومه، وأمسك بقلمه ليحلب ما تجود عليه به بنات أفكاره، لكنه القدر، كان فى انتظاره بغرفته، فرحل ومعه أفكاره بهدوء. إنه "خيرى شلبى" رائد الفانتازيا التاريخية فى الرواية العربية المعاصرة، والذى حول المادة إلى كائنات حية تعيش وتخضع لتغيرات وتؤثر وتتأثر، وتتحدث، فى سبعينيات القرن الماضى كان "شلبى" باحثًا مسرحيًا، وخلال رحلته البحثية أخرجت الأرض له ما فى بطنها من لؤلؤٍ ومرجان، فاكتشف ما يزيد من مائتى مسرحية مطبوعة فى القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين. بعض هذه المسرحيات قامت فرق كبيرة بتمثيلها، والبعض الآخر أصبح عصيًا على التنفيذ، وما زاد من حيرة الباحث أن العديد من هذه المسرحيات لم يرد لها ذكر فى جميع الدراسات التاريخية والنقدية التى عنيت بالتأريخ للمسرح المصرى، ومعظمها غير مدرج فى تقارير الفرقة التى مثلتها، وهو ما دفعه للقيام بتحقيق حول هذه المسرحيات فى حديث إذاعى بعنوان (مسرحيات ساقطة القيد) ضمن برنامج كبير كان يقدمه الروائى بهاء طاهر، وكان من بين هذه الجواهر نصًا مسرحيًا من تأليف الزعيم الوطنى مصطفى كامل بعنوان "فتح الأندلس" وقام بتحقيقه ونشره فى كتاب مستقل بنفس العنوان صدر عن هيئة الكتاب فى سبعينيات القرن الماضى، وأيضًا مسرحية من تأليف العلاَّمة الشيخ أمين الخولى بعنوان "الراهب"، وكتبها "الخولى" لفرقة عكاشة، وكان يحضر جلسات التدريبات كل يوم وهو أحد قضاة مصر آنذاك ولكنه كان يحجب اسمه ووضع بدلاً منه بقلم كاتب متنكر، إلا أن حيلته كانت مكشوفة لأن الخبر قد نشر أيامها. واستطاع "شلبي" تحقيق النص ونسبته إلى أمين الخولى، كما اكتشف صلة الشيخ بفن المسرح، ومحاولاته المتكررة فى التأليف، وقد نشرت المسرحية فى مجلة الأدب التى كان يصدرها الشيخ أمين، ونشرت الدراسة فى أكثر من دورية ثقافية. ولم تتوقف اكتشافات "شلبى" عند هذا الحد، فاكتشف قرار النيابة فى كتاب "الشعر الجاهلى" وعثر عليه فى إحدى مكتبات درب الجماميز المتخصصة فى الكتب القديمة، ولم يكن كتابًا بل كراسة محدودة الورق متهرئة ولكنها واضحة وعليها توقيع النائب العام محمد نور الذى حقق مع طه حسين فى القضية. وكان المعروف إعلاميًا أن طه حسين قد أستتيب لتنتهى القضية، وبظهور هذا القرار النيابى اتضحت القضية واتضح أن النائب العام حفظ القضية لعدم كفاية الأدلة، وكانت أسئلة النائب العام وردود طه حسين عليها شيئًا ممتعًا وعظيمًا، كما أن المستوى الثقافى للنائب العام كان رفيعًا، كل ذلك حفز الكاتب لتحقيق هذا القرار من الزاوية القانونية وإعادة رصد وقائع القضية وردود أفعالها اجتماعيًا وأكاديميًا وسياسيًا وأدبيًا، وأصدر كل هذا فى كتابه "محاكمة طه حسين" الذى طبع أكثر من مرة فى الهلال وفى الدراسات والنشر ببيروت ودار المستقبل بالقاهرة وكانت أولى الطبعات عام 1969. ويعد "شلبى" أيضًا من رواد النقد الإذاعى، ففى فترة من حياته أثناء عمله كاتبا بمجلة الإذاعة والتليفزيون تخصص فى النقد الإذاعى بوجهيه المسموع والمرئى. وكان إسهامه مهما لأنه التزم الأسلوب العلمى فى التحليل والنقد بعيدا عن القفشات الصحفية والدردشة، فكان يكتب عن البرنامج الإذاعى كما يكتب عن الكتاب والفيلم السينمائى والديوان الشعرى، كما ابتدع فى الصحافة المصرية لونا من الكتابة الأدبية كان موجودا من قبل فى الصحافة العالمية ولكنه أحياه وقدم فيه إسهاما كبيرا اشتهر به بين القراء، وهو فن (البورتريه)، حيث يرسم القلم صورة دقيقة لوجه من الوجوه تترسم ملامحه الخارجية والداخلية، إضافة إلى التكريس الفنى للنموذج المراد إبرازه، وقدم فى فن البورتريه مائتين وخمسين شخصية من نجوم مصر فى جميع المجالات الأدبية والفنية والسياسية والعلمية والرياضية، على امتداد ثلاثة أجيال، من جيل طه حسين إلى جيل الخمسينيات إلى جيل الستينيات.