كلما كتبت فى هذا المكان أو غيره عن شىء له طابعه السياسى المباشر تزايد قلقى، تماماً مثل رجل يترك مهنته التى عاش عمره من أجلها ويروح يزاول مهنة أخرى. كأننى أمد يدى لأسحب، خلسة، حقيبة العدة الخاصة بواحد من هؤلاء الأصدقاء المشغولين بالشأن السياسى المباشر، أفتحها وأستخدم ما تحتويه من مفاتيح ومفكات وخلافه، بينما الأصل أن يقوم كل واحد فى هذا البلد بالعكوف على عمله ومحاولة إجادته ليس أكثر من ذلك، ولا أقل. إلا أن الظروف الاستثنائية التى نعيشها حتى باتت معها ربات البيوت أنفسهن مشغولات بها لا يتوقفن عن إبداء الرأى. هكذا لا يجد الواحد، مهما تلفت، وبسبب من إلحاح الأوضاع، أى مساحة يلتقط فيها الأنفاس، حتى لو كانت أنفاساً سياسية، دعك من قارئ يصيح بك معلقاً: «إنت بتقول إيه؟ «وهو يوغل فى تكرار حرف الهاء حتى ليبدو، فى نظرى، كأنه يموء مواء لا يليق، كأنه يظنك تكتب له وحده، رغم أنك فى أول الأمر ونهايته مجرد كاتب يكتب ما يشاء بينما هو قارئ لا يجبره أحد على قراءة ما لا يشاء، أفكر فى هذه المسائل كلها، وأنا جالس وحدى فى قلب الليل، غير قادر على تنحية ما هو سياسى خارج الحجرة، بل يظل مشهد الجلسة الافتتاحية لمحاكمة مبارك لا يغادر مخيلتى إلا ليأتى، فى البداية جاءت القاعة كاملة بكل مؤثراتها: أصوات المتهمين (أفندم. موجود) ثم إنكار الاتهامات الموجهة خصوصاً (كل هذه الاتهامات أنا أنكرها) المناشدات الفقيرة، التى قالت بها جماعة الموكلين عن الشهداء، بينما يتزاحمون أمام المنصة. جلوسهم والطير على رؤوسهم يستمعون إلى محامى مبارك المعجب بصوته المتمهل، وهو يعدد مطالبه السبعة كمن يعطى درساً، كانت هذه مع تعليقات القاضى ومداخلات البعض هى أبرز المؤثرات داخل القاعة، التى افتقد ولو مرافعة واحدة تليق وعظم الجلسة التى شاهدها العالم أجمع، بحيث إننى كنت سعيداً بأن هذا العالم أجمع لا يفقه من اللغة العربية شيئاً، ولكن الوقت لم يطل، لحسن الحظ، حيث راحت المؤثرات كلها تتوارى واحدة وراء الأخرى، بينما المشهد الوحيد الذى انفرد بالكادر وحده، هو ذلك الحيز الحديدى، الذى صنعه القفص، وما احتواه من متهمين موزعين بنظام لم يختل، كأنها لوحة جماعية حية وإن رسمت بألوان مائية، فى ثلثى الكادر من الناحية اليمنى صفان من أصحاب الثياب البيض يتلاصقون فى الخلفية بملامح مبهمة إلا قليلاً، فى صدارتهم يجلس العادلى وحده فى منتصف الدكة الأمامية، مثل بقعة سوداء على خلفية من مساحة بيضاء، يحدق بنظرة وقحة مسددة إلى كائن محتمل والسلام، نظرة لم يكن يسددها حتى عندما كان أحد أولياء الأمن فى هذا البلد، أما فى مقدمة ثلث القفص الأيسر فقد وقف جمال وعلاء متجاورين، مثل اثنين وقعا فريسة قبضة مجهولة لا يملكان حيالها شيئاً، ثياب بيض ومصحف صغير فى جلد أسود، بين آن وآخر، تقترب الكاميرا من انفراجة بينهما ليطل وجه مبارك المستلقى مثل عراب انتهى وقته، المائل ميلا محسوباً، يتفرج على ما يتاح، يقبل اللحظة ولا تقضى عليه المفاجأة. ولما أتت استراحة رأينا محفته خالية والعسكر يحرسونها، وأفكر أنه قفز من عليها لقضاء حاجة أو أكثر، وما أن تنتهى الاستراحة حتى يعود كل إلى مكانه بالضبط، ويتجسد المشهد مثلما كان، ويخيل إلى أنه جرى التدريب عليه من قبل. ثم تتراجع الكاميرا ليعود القفص كاملاً. جدارية من طبيعة صامتة مرسومة بألوان الماء الهشة مع أنها من لحم ودم. هكذا أراها داخل الحجرة فى قلب الليل، خرافة مصرية معاصرة، تم حبسها فى القفص.