• كان هناك ضجيج بالمقهى بسبب التليفزيون ذى الشاشة الكبيرة وعادة مشرفى المقهى الغريبة التى تجعلهم يتركون صوت التليفزيون عاليا، هى عادة مصرية بغيضة فى كل المقاهى منذ أكثر من ربع قرن، ولا أعرف كيف يستطيع رواد المقاهى التغاضى عنها والدخول مع بعضهم فى أحاديثهم الخاصة. - أنا مافيش فى حياتى غير اتنين زكريا أحمد.. الموسيقار العظيم وضابط أمن الدولة اللى قبض عليا سنة 85 19. • قبل الفطار بدقيقة كنا تقريبًا محاصرين البيت من بعيد، فى الوقت ده كانت بولاق لسه مش زحمة زى دلوقت، وكان فيه حتى غيطان حوالين البيوت، المدفع ضرب طلعنا على الشقة، خبطنا وطلع لنا واحد بدقن، أول ما شافنا عرفنا.. لكن الغريب إنه رحّب بينا. قابلته يجلس وحيدًا فى ركن من مقهى محطة مصر.. لم أعرفه ولم أتعرف عليه، جلست بعيدًا فى ركن آخر منتظرًا موعد قيام قطار السابعة مساء، كانت الساعة حوالى السادسة، وكنت أفعل فى كل مرة أسافر فيها اشترى عددًا من الصحف، وأجلس أقرأ فيها، وأشرب القهوة حتى يأتى موعد القطار فأنصرف لأكمل القراءة فى القطار نفسه، كالعادة كان هناك ضجيج بالمقهى بسبب التليفزيون ذى الشاشة الكبيرة، وعادة مشرفى المقهى الغريبة التى تجعلهم يتركون صوت التليفزيون عاليا، هى عادة مصرية بغيضة فى كل المقاهى منذ أكثر من ربع قرن، ولا أعرف كيف يستطيع رواد المقاهى التغاضى عنها والدخول مع بعضهم فى أحاديثهم الخاصة، لاحظت أنه يمعن النظر إلى، أكثر من مرة ألاحظ ذلك، ثم صار لا ينحرف بنظره عنى، كان فى حوالى الستين من العمر، يرتدى بدلة رغم الصيف لكن بلا كرافتة، قاومت أن لا أنظر إليه لكنى لم أستطع، نظرت إليه مرتين وفى الثالثة ابتسم وحيانى بيده، بل قام واتجه نحوى ووقف يمد يده يصافحنى. - أزى حضرتك يا أستاذ حسين؟ قلت مرتبكا: - أهلا وسهلا، حضرتك تعرفنى؟ - تسمح لى أقعد؟ - اتفضل، قلت ذلك بارتباك أكثر. - طبعا حضرتك نسيتنى، معاك حق، بس أنا ما نسيتكش، حضرتك بقيت كاتب مشهور وصورك فى كل الجرايد، أنا زكريا أحمد. انتبهت على الفور، ضحكت، قلت: - أنا مافيش فى حياتى غير اتنين زكريا أحمد.. الموسيقار العظيم وضابط أمن الدولة اللى قبض عليا سنة 85 19، معقول، إزيك يا سيادة الرائد، تلاقيك لواء دلوقت. - خلاص يا حسين بيه، أنا سبت البوليس من زمان. - معاش يعنى؟ - لا والله، حكاية كده، اسمح لى أعزمك على قهوة، - أنا باشرب القهوة. - خلاص يبقى الحساب عندى، اعتذار يعنى حتى. ضحكنا وقال: - بس غريبة إنك ما تعرفتش عليّا بسرعة. - مش غريبة ولا حاجة، إحنا قربنا على أربعين سنة ياراجل من يوم ما شفتك. - صحيح. قال ذلك وراح ينظر فى المنضدة شاردا، ثم قال: - بس أنا مش زعلان. - إنى ماتعرفتش عليك يعنى؟ - لا. . إنى سبت البوليس، ومن زمان. - الله دى حكاية بأه يازكريا بيه. - فعلا حكاية، حأقولهالك يمكن تكتبها، شوف ياسيدى، فى رمضان سنة 86، يعنى بعد ما قبضت عليك بسنة، جاتنا أخبار عن شوية شبان إسلاميين ناويين يعملوا عمليات تفجيرية فى القاهرة، كانت كل التحريات اللى عندنا بتأكد المسألة، وكنا فى رمضان.. إنت عارف طبعا إن العادة بتاعتنا يتم القبض على الناس فى الفجر، علشان بتبقى الناس نايمة وما بنحبش نقلق الجيران - ابتسمت وواصل الحديث- ماكانش ممكن ننتظر لبعد رمضان، وطبعا فى رمضان ماحدش بينام، اقترحت على رئيسى العميد مراد جاب الله، طبعا شخصية كانت معروفة – ابتسمت من جديد – اقترحت عليه نقبض على الشبان دول ساعة الفطار، كان عندنا إخبارية إنهم بيفطروا مع بعض فى شقة واحد منهم فى بولاق الدكرور، يبقى كده كمان حنلمهم مع بعض. - ساعة الفطار يازكريا بيه، ياه. - أرجوك استنى، كل اللى حتقوله معاك حق فيه، فعلا اقتراح غير إنسانى لكن كمان شؤم. وابتسم وهو يهز رأسه: - والله ما مصدق اللى حصل. - كمّل حضرتك، أنا حاسمع. - أيوة حاكمل بس ما تكتبش الحكاية دى إلا بعد ما أموت، واللا أقول لك، اكتبها بس ما تجيبش سيرتى، أنا صحيح سبت الخدمة بس ما تضمنش إيه ممكن يحصل لى. - احك يازكريا بيه اتفضل. أخذ نفسا طويلا وبدأ يحكى من جديد. - قبل الفطار بدقيقة كنا تقريبا محاصرين البيت من بعيد، فى الوقت ده كانت بولاق لسه مش زحمة زى دلوقت، وكان فيه حتى غيطان حوالين البيوت، المدفع ضرب طلعنا على الشقة، خبطنا وطلع لنا واحد بدقن، أول ما شافنا عرفنا.. لكن الغريب إنه رحّب بينا، زى أنت ماعملت معانا كده يوم ما جينا نقبض عليك فى الفجر، ياريتنا رحنا فى الفجر، المهم دخلت ومعايا المخبرين واتنين ظباط شبان وانتشروا فى الشقة، أنت عارف طبعا، الولاد كانوا بيصلوا المغرب، سبتهم يصلوا، اللى فتح لنا قال لو ممكن بس يشربوا أى عصير قبل ما ننزل بيهم، بصراحة وافقت، دخل المطبخ هو وواحد زميله والمخبرين وراهم وجابوا لنا صينيتين عليهم كوبايات قمر الدين، سبتهم يشربوا والمخبرين كمان شربوا وواحد من الاتنين الظباط الشبان شرب ونزلنا فى دقايق، حطناهم فى تلات عربيات ملاكى ورحنا على الدقى، شارع جابر بن حيان، عارفه طبعا. قلت ضاحكا. - مين ما يعرفوش، أمن الدولة يامحترم. - المهم نزلت من عربيتى ونزل السواقين وماحدش نزل تانى غير الظابط اللى ما شربش قمر الدين والشبان المقبوض عليهم. يعنى المخبرين والظابط اللى شرب قمر الدين ماتوا فى مكانهم. -بتقول إيه؟ - زى ما بقول لك كده. - يعنى إيه؟ شرّحنا الجثث ما لقيناش أى أثر لسم مثلا.. العيال اتعذبوا كتير علشان يقولوا إيه سبب موت المخبرين والضابط ومافيش سبب، ما يعرفوش، مات منهم اتنين فى التعذيب. - غريبة، بس ما دام مافيش سم حضرتك ليه ما موتش لامؤاخذة يعنى ولا الظابط التانى. - الظابط التانى بعد سنة كان بينضف طبنجته طلعت منها طلقة فى وشه مات، وأنا يمكن حكمة ربنا علشان أعيش متعذب. - ياه، حكاية غريبة.. علشان كده سبت الخدمة؟ - بصراحة اترفت. - علشان أنت صاحب الاقتراح القبض على الناس ساعة الفطار يعنى؟ - لا، دول ما بيهموهمش، لكن اتشاءموا منى، حجيت عشر مرات ومش قادر أنسى، دلوقتى أنا فاتح محل ملابس حريمى بس مش مرتاح، مستنى الموت فى أى لحظة، عايش مرعوب باخد بالى من كل حاجة، مين عارف يمكن دلوقتى ارتاح بعد ما حكيت لك.