فى عام 1967 كان صاحبنا يدرس فى إحدى الجامعات الألمانية، وحين وقعت النكسة شعر بأنها هزيمة شخصية له ولجيله، وطمست روحه وضاعت منه مشاعر الانتماء، وحينما جلس بالصدفة بجوار رجل لا يعرفه فى أحد المطاعم وتجاذب معه أطراف الحديث، وسأله الرجل فى نهاية الحوار عن جنسيته أو البلد الذى ينتمى إليه، تلعثم كثيرًا وحاول التهرب أكثر من مرة من السؤال، ثم قال له إنه إسرائيلى. والغريب أن سنوات طويلة مرت على هذه الواقعة وأننا عبرنا وانتصرنا، لكن إحساس الهزيمة لا يزال يلازم صاحبنا ويجعله يتلعثم حين يسأله أحد فى أى بلد أوروبى يزوره عن هويته أو جنسيته، وآخرها منذ شهر حين ذهب فى زيارة لألمانيا بعد أكثر من أربعين عامًا من الواقعة الأولى التى ادعى فيها أنه إسرائيلى، وذهب هذه المرة إلى مطعم لبنانى، وحين سأله صاحب المطعم الذى استرعى انتباهه ملامحه العربية وسأله بالإنجليزية عن جنسيته، فوجئ بنفس شعور الهزيمة يداهمه، لكنه قال هذه المرة إنه مصرى، فصاح اللبنانى "مصرى..يا عيب الشوم.. مصرى من البلد اللى باعت القضية وبتحاصر أهلنا فى غزة.. هذه القصة حكاها صحفى مصرى يعيش ويكتب فى أكثر من صحيفة أمريكية، ودار حولها مقاله الذى أعادت جريدة "ديلى نيوز" المصرية الخاصة والتى تصدر بالإنجليزية منذ نحو شهر.. وتساءل كاتبها فى نهاية مقاله.. لماذا لا يزال ينتابنا الإحساس بالهزيمة رغم أننا حققنا النصر؟! وهو سؤال حقيقى ويستحق بالفعل التأمل والبحث عن إجابات مقنعة.. لن أقول مع القائلين إن السادات رحمه الله هو الذى اغتال الفرحة بالانتصار حين بدأ بعده بعام واحد فى تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادى والاستدانة من الخارج وقلب الهرم الاجتماعى فى مصر رأسا على عقب.. ولن أتحدث عن إحساس معظم هذا الشعب بأن هذه الدولة ليست دولته أو أنها تم تأجيرها مفروشة لحفنة من رجال الأعمال والمنتفعين والمتسلقين وخدم السلطان، وأن هؤلاء هم وحدهم الذى يسرقون خيرها ويكبسون على أنفاسنا ويقتلون بداخلنا أى إحساس بالانتماء لهذه الوطن الذى لا ينتمى لنا"ازاى أحبك وإنت مش بتحبني"..ولن أكرر نفس الكلام الذى بات من المسلمات حول غياب العدالة الاجتماعية وانعدام الثقة بين الحكام والمحكومين وعدم وجود ميزان واضح للصعود والترقى الاجتماعى، بعيدًا عن الشللية والمحسوبيات ولحس أحذية الواصلين والمهيمنين على مقدرات هذا الشعب، ولكنى سأقيس الأمر على نفسى وأعترف بصراحة شديدة أنه لم يعد يستهوينى أغنيات النصر التى كانت تحمسنى وتسعدنى وتثير الحماسة فى أوصالى وأنا طفل، وكانت تعيد إلى توازنى النفسى وتعطينى جرعة سريعة لمقاومة الشعور بالإحباط وأنا شاب. وأعترف أيضا بأننى كنت أغير المحطة كلما وجدت بطلا من أبطال الحرب أو الضباط الذين شاركوا فى أكتوبر يتحدث عن ذكرى النصر فى قناة من قنوات التليفزيون خلال الأيام الماضية، وأعترف أخيرًا بأننى لا أنظر إلى أى شىء حولى إلا وأرى فيه آثار الهزيمة.. أحاديث الناس، برامج التليفزيون، مانشيتات الجرائد، التراب الذى يكسو الشوارع والبنايات، الوجوه الكئيبة والقلوب المكتئبة.. كل شىء فى هذا البلد يوحى بالهزيمة.. فكيف أشعر أنا بالنصر؟!