فى الطريق إلى "رأس البر" من الناحية الشرقية، استقبلتنا لافتات الحداد السوداء على المنازل وواجهات المحال التجارية .. "نرفض مصنع الموت" .. "لا لمصنع السموم".. "لا للاستثمار القاتل"، كلها كتبت بخطوط بسيطة، تؤكد أن كتابها متطوعون وليسوا محترفين . كوبرى علوى يفصلنا عن منطقة السنانية التى تقع على الجانب الآخر، يستقبلنا المهندس "على مطاوع" بابتسامة كبيرة، وترحيب أكبر .. ويرافقنا خلال جولتنا التى بدأت بعبورنا قرية "السنانية" الشهيرة بالنخيل .. أكثر من مليون نخلة. "أجريوم" الكابوس الثقيل الذى أصاب محافظة دمياط كان سبب الزيارة. دعينا لحضور احتفال أبناء المحافظة بعيد المحافظة القومى، الذى اختلف عن السابق، فاكتفوا بتعليق الرايات السوداء فى كل مكان تعبيراً عن الحداد، وأقاموا مؤتمراً بحضور مجموعة كبيرة من الإعلاميين وأساتذة الجامعات والمهتمين بالشأن العام.و اقتصر فيه احتفال المحافظة الرسمى على وضع المحافظ إكليل من الزهور على النصب التذكارى للجندى المجهول . نعبر الكوبرى والمهندس على يروى لنا قصة تراخيص المصنع التى أنهيت بطريقة عكسية، بدءاً بوزارات البترول والرى والدفاع، وانتهاءاً بوزارة البيئة، التى جاءت فى ذيل قائمة الموافقات، رغم أن القوانين المصرية تضع الموافقات البيئية على رأس الإجراءات الضرورية لتراخيص الصناعات الملوثة للبيئة. ويؤكد أن دمياط لها حظ وافر من الصناعات الملوثة للبيئة مما تسبب فى إصابة كثير من أبنائها بأمراض خطيرة، ويشير إلى المنطقة الحرة الصناعية القريبة من ميناء دمياط، التى تحوى مصنعين لإسالة الغاز، وآخر لإنتاج الميثانول يسببون سحابة كبيرة من الدخان تغطى سماء المنطقة، قريباً من جزيرة رأس البر التى تحتضن تنوعاً بيئياً متميزاً، يؤهلها لتعلن كمحمية طبيعية لا أن تخرب بهذا الشكل. "أخذنا نصيبنا من التلوث" .. كانت العبارة التى بدأ بها المهندس جمال البلتاجى كلامه، قبل أن يؤكد أن أهالى دمياط ليسوا ضد الاستثمار، أو ضد "أجريوم"، وإنما ضد محاولة تدمير مدينتهم بانبعاثات ومخلفات المصنع . يشير إلى صوامع الغلال القريبة من أرض المصنع، والتى يخزن فيها أكثر من 140 ألف طن من القمح، وإلى المطحن الذى لا يبعد عن موقع أجريوم كثيراً ويقول "الأضرار ستمتد إلى الآلاف من المصريين فى كل مكان بعد أن يصلهم الدقيق الملوث الذى ينتجه المطحن". "شركة أجريوم المصرية للمواد النيتروجينية .. شركة مساهمة مصرية تعمل بنظام المناطق الصناعية الحرة " .. قابلتنا العبارة السابقة مكتوبة على لافتة ضخمة، ومزينة بعلمى مصر وكندا فى الأطراف عند طرف الأرض المخصصة للمصنع، والتى أحيطت بسور كبير من الأسلاك الشائكة ينتهى عند بوابة ضخمة مشددة الحراسة .. أمام البوابة الرئيسية كان الوضع يغنى عن أى كلام .. أرض المصنع، وعلى مقربة منها تظهر أشجار النخيل الكثيفة ب "السنانية"، وشاطئ البحر المرشح لتصريف مخلفات المصنع وراءنا.. الأرض خالية من أى إنشاءات أو مبان بخلاف "باكية" خشبية كبيرة، فى منتصفها و"كشك" حراسة قريب من البوابة، وبعض "المواسير" المعدنية الضخمة بالقرب من السور. يحدثنا المهندس على عن المبالغ الطائلة التى تؤكد الشركة أنها أنفقتها على الموقع، مؤكداً أن ما نراه بالتأكيد لا يرقى إلى قيمة المبالغ المعلن عنها والتى تقدر بالملايين، ومشيراً إلى أن إدارة الشركة أنفقت هذه المبالغ على أمور أخرى لها علاقة بما تحدث عنه السفير الكندى من عمولات تلقاها مسؤلون فى مناصب عليا. حملة التوقيعات حدثنا عنها أحد قيادى حملة مناهضة المصنع، مؤكداً أن توقيع أى شخص بالموافقة على هذه الجريمة عار لا يمحى، وقال إن قائمة سوداء بأسماء أصحاب التوقيعات ستعلن أمام الرأى العام، ليعرف الجميع كل من ساهم فى جريمة "أجريوم" كما وصفها. وحكى آخر عن قصة سمير زاهر رئيس الاتحاد المصرى لكرة القدم ونائب الشورى عن دمياط، بعد أن تنصل من موافقته على إقامة المصنع، وقال إن مسؤلى الشركة استغلوا توقيعه أثناء تناول وجبة غداء مع شخصيات أخرى من دمياط فى الترويج لموافقتهم على إقامة المصنع . نتحرك من أمام المصنع باتجاه جزيرة رأس البر، ولا يفوتنا حالة القلق التى سببتها زيارتنا لحراس المصنع بعد أن صورنا أحدهم بكاميرا الموبايل، وأجرى الآخر اتصالاً هاتفياً برؤسائه، وفى طريقنا نعرف من"المهندس على" أسباب التمسك بموقع المصنع الحالى، الذى يحقق للشركة مكاسب مضاعفة، فالمياه التى سيتسهلك المصنع 1200 متر مكعب منها متوفرة، والغاز المكون الأساسى نبيعه للعدو قبل الصديق، والرصيف البحرى الذى ستنشأه الشركة سيتكفل بتوفير نفقات النقل والشحن، مكاسب كبيرة لن تضحى بها الشركة من أجل صحة أهالى دمياط، أو حالة البيئة فيها. خاصة أن "أجريوم" المركز السابع ضمن قائمة أكثر 10 شركات ملوثة للبيئة فى كندا. رأس البر التى تشهد التقاء نهر النيل بالبحر المتوسط عند منطقة "اللسان"، استقبلتنا متشحة بالسواد الذى شكلته لافتات الحداد والرفض على النوافذ والشرفات، هرب الزوار وانخفض ثمن وحداتها السكنية بمعدل 20%، خلت الكافيتريات والمطاعم رغم أن هذا التوقيت كان يشهد بداية الموسم الصيفى. 80 مليار جنيه قيمة استثمارات رأس البر من عقارات وفنادق ومطاعم، يهدد وجودها المصنع الذى لا تزيد استثماراته عن 7 مليار جنيه. فضلاً عن تدمير الثروة السمكية التى يعيش أهل عزبة البرج على العمل فى صيدها، ليشرد وقتها صيادو عزبة البرج التى تحوى نصف أسطول الصيد المصرى . فى المؤتمر الصحفى لا يختلف الأمر كثيراً، نسمع كلام خبراء البيئة والباحثين حول مخاطر المصنع، الذى لا يختلف عن كلام أهالى دمياط، بعد أن أصبح المصنع ووجوده قضية حياة أو موت، ونلاحظ أيضاً تمثيل أغلب التيارات السياسية فى حملة مناهضة المصنع تجمع، وناصريون، وإخوان، وأدهشنى أكثر الجالس بجوارى الذى هاجم المصنع بحماس شديد، ورفض وجوده بكل الأشكال، فسألته عن صفته ليقول بأسف "حزب وطنى". فى طريق العودة نمر من جديد على منطقة "السنانية"، التى تستقبلنا بأشجار النخيل الممتدة بطول الطريق، وأبيات القصيدة التى كتبها الشاعر عبد الرحمن يوسف تضامناً مع دمياط ما زالت تتردد فى أذهاننا .. "متى موعد الموت؟ .. متى موعد الموت؟".