يدور الجدل حول طبيعة النظام السياسى المصرى بين فريقين: الفريق الأول يمثله الحزب الوطنى والحكومة وأنصارهما، حيث يؤكدون دائما أن مصر دولة ديمقراطية يحكمها نظام برلمانى رئاسى ويدللون على ذلك بأن الشعب ينتخب ممثليه فى المجالس النيابية، بل وينتخب أيضا رئيس الجمهورية من بين أكثر من مرشح. يقولون أيضا إن مصر دولة مؤسسات ففى مصر الآن ما يقرب من 20 حزبا سياسيا وعددا كبيرا من الصحف والمجلات معظمها مستقلة وتتمتع بحرية كاملة، بالإضافة إلى منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات الدينية والمؤسسات الرقابية كالجهاز المركزى للمحاسبات، وليس أدل على ديموقراطية مصر من أن ينجح 88 نائبا ينتمون لجماعة محظورة فى انتخابات مجلس الشعب الأخيرة. بينما الفريق الثانى وتمثله الأحزاب والحركات السياسية المعارضة يدعى أن مصر أبعد ما تكون عن الديموقراطية فالانتخابات مزورة ومعظم هذه المؤسسات تقع تحت سيطرة الحكومة، وأكبر دليل على غياب الديموقراطية هو عدم وجود تداول حقيقى للسلطة، فالحزب الوطنى يحتكر الحكم منذ أكثر من 30، وهو ما أدى - على حد زعمهم – إلى استشراء الفساد والفقر والجهل فى بر مصر. ولأجل الفصل فى هذا النقاش الفكرى يلزمنا العودة إلى أصل وجوهر الديمقراطية بعيدا عن الجدل الدائر حول مظاهر هذه الديمقراطية ووسائلها كالبرلمان والدستور.... إلخ الديمقراطية كلمة أصلها لاتينى وتعنى حرفيا "حكم الشعب"، أى أن الشعب هو المنوط به اتخاذ قرارات الدولة وليس الحاكم. وتعتبر ديمقراطية أثينا فى القرن الخامس قبل الميلاد مثالا على هذه الديموقراطية المباشرة. ومع اتساع الدول جغرافيا وزيادة عدد سكانها أصبح من الصعب استشارة الشعب فى كل صغيرة وكبيرة تولدت فكرة البرلمان، وهو مجلس ينتخبه الشعب لينوب عنه فى اتخاذ ما يلزم من قرارات٬ وتكلف بتنفيذ هذه القرارات الجهة التنفيذية "الحكومة" ويراقب أداءها نواب الشعب. ومع التطور الإنسانى ظهرت الحاجة إلى وجود قوانين ودساتير تحمى حقوق الأقليات الإثنية والدينية، حيث إن الديمقراطية فى جوهرها هى حكم الأغلبية. ما أردت أن أقوله هنا هو أن وجود البرلمانات والدساتير والقوانين ونشأة الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدنى ما هى إلا وسائل لتحقيق الديمقراطية أو بمعنى أدق لضمان وتيسير مشاركة الشعب فى الحكم، فوجود البرلمان- من المفترض - أن يساعدنى كفرد فى إيصال صوتى عن طريق من يمثلنى والدساتير والقوانين تنظم الإجراءات المتعلقة بالعملية الديموقراطية وتحمى حقوق الأقليات والأحزاب تثرى الحوار الديمقراطى بين الأيدلوجيات المختلفة.... وهكذا. وعلى هذا يكون المهم هو القصد من وجود هذه الوسائل. هل هى حقا موجودة لتيسير مشاركة الشعب فى الحكم؟ أم أن القصد منها هو إضفاء الشرعية على حكم شمولى؟ وبالعودة لواقع الحال فى مصر نجد أنها بدون شك لا تتمتع بديموقراطية حقيقية، فالشعب لا يحكم ولا يحاسب الحكومة، بل إن الغالبية العظمى لا تشارك أساسا فى العملية السياسية مكتفية بالسعى وراء "لقمة العيش"، ولكنها – أى مصر – فى الوقت نفسه تملك بالفعل الكثير من مظاهر الديمقراطية كالمظاهرات والاعتصامات المتكررة والحرية النسبية للصحافة المعارضة والمستقلة ووجود حركات سياسية مختلفة تطالب بالتغيير، بالإضافة إلى وجود برلمان ودستور و أحزاب. هذه المظاهر بدون شك مفيدة فهى تجعل مصر مستعدة دائما لاستقبال الديمقراطية، فلا ينقصنا إلا تعديلات بسيطة على بعض المواد فى الدستور وبعض القوانين. أى أننا لا ينقصنا سوى وجود إرادة حقيقية للتحول الديمقراطى. لم يتبق سوى خطوة صغيرة للوصول للديموقراطية قد نخطوها فى سنة أو فى عشر سنوات، ولكنها تبقى خطوة واحدة. إن مصر الآن حبلى بالديمقراطية ظهرت عليها جميع الأعراض ولم يتبق سوى لحظة الولادة.