أتذكر يا نور عينى يوم أن أومأت برأسك لتقبل يداى كعادتك قبل الرحيل مستودعنى أمانة عند الله.. يوم أن رأيت فى عينيك نظرة لم يحتمل قلبى تفسيرها.. وأحطت صغارك بذراعيك تضمهم إلى قلبك.. هامساً فى أذن أكبرهم أن يرعى إخوته فى غيابك مهما طال.. وأخذت بيد زوجتك على خدك تقبلها وقد رسمت شفاهك سريعا كلمة حب لها دون أن يسمعك أحد.. ودلفت من المنزل مسرعاً وقد انخلع قلبى وراءك يتوسل إليك ألا ترحل. كان هذا الوداع الأخير. إذ سمعنا بخبرٍ عن تفجيرٍ وقتلى ومصابين وأسماءٍ عديدة... لكنى انتبهت أن اسمك من بين أسمائهم.. بالطبع لم أصدق أذناى.. لكن من حولى أكدوا لى ما سمعته بعيونهم المكلومة ودموعهم المنسكبة.. أصحيح أنى فقدتك للأبد؟.. ألن أعد الليالى والساعات منتظرة عودتك مرة أخرى؟ ألن ترتمى بين أحضانى قائلا لى: ( ادعيلى يا أمى)؟.. أتيتَّم صغارك بالفعل؟ أفقدوا من يعيلهم بدخلٍ زهيدٍ مقابل حمايته للوطن؟ حبيبى.. أعلم أنك حى عند ربك تُرزق بالخيرِ كله.. لكن قلبى الحزين لم يعد يحتمل فراقك.. وصارت دعوتى الوحيدة هى أن ألحق بك قريباً.. فالحياة يا عمرى غلب عليها الداكن فقط.. خاصة بعد أن رأيت أن استشهادك قد هتفت له بعض الحناجر.. ثم ما لبث أن أصبح فى طى النسيان كباقى الأحداث المؤلمة فى بلادنا.. ولم يتغير شىء.. نعم لم يتغير شىء.. فقد لاذ قاتلوك بالهرب.. وتكرر الحدث مرات عدة.. فلا أحكام رادعة ولا اقتصاص يشفى الصدور.. فأطهر من فى الوطن يتساقطون واحداً تلو الآخر.. وأخبث من فى الوطن ما زالوا ينعمون.. فمنهم من يحيا حياهً وراء الأسوار لا يحلم بها من هم خارجها.. ومنهم من ما زال يرتع نهباً وجوراً.. والغنى يزداد ثراءً والفقير يزداد قحطاً.. والإعلام يهلل للحاكم.. والشعب يجرى لاهثا وراء لقمة العيش مدركاً أن كل الشعارات الرنانة التى حلمت بها يا ولدى من أجل حياة آدمية ماهى إلا حلم بعيد المنال بل قد يكون مستحيل المنال.. لم يزد شىء يا عمرى غير أنى كلما سمعت طارقاً على الباب، هرولت تجاهه لعله أنت، ولكن...