كان المصريون – بلا تدقيق – منجذبين لقتصاديا لا سياسيا للنموذج التركى، والمتمثل فى شخص أردوغان، وكانوا على استعداد وحب أن يستقبلوه على الأعناق إذا زار القاهرة، ولكن حينما انجلى كل شىء، وظهرت الصورة كاملة تراجع المصريون بحسهم الوطنى ووعيهم الفطرى من أقصى التأييد إلى أقصى درجات الاستنكار والنقد، بل وصل بعضهم إلى النقيض من الحب والتأييد إلى الكره ودعوات المقاطعة حتى لمنتجاتها وزيارتها. لست هنا بصدد دراسة مسالك الشعب المصرى وتحولاته العاطفية، ولكن ما يعنينى هنا هو شخص أردوغان نفسه، والذى خرج – بوعى وبلا وعى – عن كل حدود اللياقة والأعراف الدبلوماسية فى انتقاده لجيش مصر وقادته والقيادة السياسية الحالية متمثلة فى الرئيس عبد الفتاح السيسى، وإصراره على وصف ما حدث بالانقلاب. ولم يدخر هذا الأردوغان وسعاً فى انتقاده الصارخ لمصر وجيشها وقادتها فى كل محفل واجتماع وحتى لقاءات ثنائية أو خطابات داخلية موجهة لشعبه، حتى إنه تتواتر بعض التقارير عن استضافته اجتماعات التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين التى وصفتها الحكومة المصرية مؤخرا بالإرهابية. ولفهم موقف أردوغان، والذى يبدو غريبا على الكثير، لابد لنا من فهم طبيعة تركيا وجيشها. كانت تركيا امبراطورية مترامية الأطراف أخضعت مولدوفا والمجر وبلغاريا شمالا متلاصقة مع حدود النمسا وحتى السودان واليمن جنوبا ومن بحر قزوين شرقا مرورا بالخليج وشمال أفريقيا وحتى المغرب غرباً، حتى جاءت معاهدة لوزان 1923 مؤكدة على اتفاقية الفرنسى فرانسوا جورج بيكو والبريطانى مارك سايكس 1916 (سايكس – بيكو)، والتى قضت (دون الإغراق فى التفاصيل) بتقلص دور تركيا كإمبراطورية وقوة عظمى سياسية وعسكرية واقتصادية، وجاء مصطفى كمال أتاتورك 1927 الذى اعتبر أن الإسلام مصدر شرور تركيا، وكان أتاتورك ابن المؤسسة العسكرية البار. وقامت المؤسسة العسكرية فى البلاد بعدة انقلابات على الشرعية، وصلت إلى الإطاحة بأربع حكومات فى خمسين عامًا، من أجل أن يظل الجيش هو حامى حمى العلمانية والمسيطر والمهيمن على كافة مؤسسات الدولة. لا يغيب عن ذهن أردوغان وباطن عقله شخصية عدنان مندريس الذى تولى قيادة البلاد من عام 1950 إلى 1960، والذى أراد تقليص دور الجيش التركى فى التدخل فى السياسة والاقتصاد والإعلام والصناعة. فقاموا بإعدامه واثنين من وزارئه بحجه أنه تآمر على النظام العلمانى إعادة للخلافة، وأعاد الآذان بالمساجد وقام بالحج سراً. وبرغم تصريحات مندريس التكررة بالالتزام بالنظام العلمانى إلا أن هذا لم يشفع له وقاموا بإعدامه. بعد سرد كل هذه القشور التاريخية البسيطةن لنا أن نتخيل هذا العداء الأردوغانى للجيش أى جيش وخوفه من الانقلابات والعسكريين أى عسكريين. ينام فيحلم بانقلاب يقصيه ويحاكمه ويقوم بإعدامه.. يستيقظ فيجد ما يخاف منه يتجسد فى الجيش المصرى، لم يعد يرى الملايين وخروجهم وآلامهم إنما يرى فقط حركة الجيش ودعمه إرادة الشعب انقلابا. لم يعد يرى عبد الفتاح سياسيا أو رئيسا منتخبا إنما يراه جلاده الذى حتما سيحاكمه ويقوم بإعدامه. فى خضم هذا التوتر النفسى والخوف من تكرار التاريخ القريب لتركيا له ولحزبه ولوزرائه يتناسى أردوغان أنه قابع هناك فى تركيا وجيشه قائم عنده، وليس للرئيس السيسى ولا للجيش المصرى أى مأرب بالتدخل هناك. يجب على أردوغان أن يركز على جيشه ويتدبر أمر شعبه ويترك خوفه المرّضى من الجيوش وقادتها. عليه أن يتخلى عن الكابوس والحلم...كابوس الانقلاب عليه. وحلم إعاده الحدود التركية القديمة وحكم بلاد العربن وخاصة مصر كولاية عثمانية.