ما هو الأدب العالمى؟ "إنه الإنسانية فى طريقها إلى ذاتها". إلا أن الوقائع تنفى بقسوة هذا التعريف النبيل لجامع الكتب النادرة السويسرى مارتين بودمير. وهذا ما تثبته على الأقل صرخات الاستنكار وتهديدات المقاطعة لمعرض الكتاب الثامن عشر فى باريس، الذى فتح أبوابه يوم الخميس 13 مارس، نتيجة اختياره إسرائيل كضيفة شرف لهذه الدورة. عفوا، الضيف هو "الأدب الإسرائيلى وليست إسرائيل، حتى لو تصادف موعد إقامة المعرض مع الاحتفال بالذكرى الستين لهذه الدولة"، هذا ما يحرص على تأكيده المنظمون لهذا الحدث الثقافى. ولا يعنى هذا التفسير شيئاً للدول العربية التى علت فيها الأصوات الغاضبة مستنكرة الدعوة "الصادمة" التى وجهتها "دولة تحترم حقوق الإنسان" إلى دولة "عنصرية" تقوم هذه الأيام بعمليات عسكرية فى قطاع غزة. وهذا هو التبرير الذى لجأ إليه الناشرون المغاربة لمقاطعة أكبر لقاء ثقافى خلال العام. ولا يختلف موقف تونس والجزائر ولبنان، التى تتصدر مجال النشر فى الشرق الأوسط، عن موقف الناشرين المغاربة، حيث أعلنوا هم أيضا مقاطعتهم للمعرض. وعلى الرغم من هذا الموقف الذى يبدو جماعياً، فقد اختلفت بعض ردود الأفعال الشخصية للأدباء العرب. فمثلا فى الوقت الذى اختارت فيه الأديبة ياسمينا خضرة، مديرة المركز الثقافى الجزائرى فى باريس "مقاطعة المعرض بشكل شخصى"، اختار على العكس الأديب الجزائرى بوعلم سانسل "مقاطعة المقاطعة". ويرى هذا الأخير أنه من العبث معاقبة الكتاب الإسرائيليين بسبب سياسة دولتهم. ويوجد كذلك عدد من الكتاب العرب المسلمين "ممزقين" بين الرغبة فى ضرورة الاشتراك فى هذا الحدث الثقافى المهم وبين الضغوط التى تمارسها عليهم دولهم، إذ يعتبر كل "تساهل" مع العدو مخاطرة حقيقية. الأسوانى سيحضر أما الكاتب المصرى علاء الأسوانى، مؤلف رواية "عمارة يعقوبيان" التى حققت أفضل المبيعات، فقد أعلن أنه سيحضر المعرض ولكنه سيقوم بتوزيع صور عن أطفال فلسطينيين ولبنانيين "ضحايا السياسة الإسرائيلية". ومن ناحية أخرى، صرح آخرون بمعارضتهم "اللغوية" للمعرض، حيث يلاحظ غياب الكتاب الإسرائيليين الذين يكتبون باللغة العربية. وهكذا تم فى اللحظة الأخيرة إضافة اسم كاتب درزى يكتب باللغتين العبرية والعربية على قائمة الحضور فى هذا المعرض. وعلى الجانب الآخر، يشارك فى هذا المعرض كتاب إسرائيليون يدافعون عن السلام ويؤيدون ضرورة إقامة دولة فلسطينية، مثل عاموس عوز ودافيد جروسمان، وإليان باب، مؤلف كتاب يتحدث عن التصفية العرقية التى سبقت ميلاد "دولة إسرائيل"، والذى رفض حضور المعرض. لقد ارتفعت إذا نبرة الخلط بين الأدب والسياسة، وهو الأمر الذى يتطلب فى النهاية تشديد الإجراءات الأمنية فى المعرض. فأصبح هذا المكان الذى من المفترض أن يكون "مكاناً مقدساً" لعاشقى الأدب، "رهينة" تشهد النزاعات السياسية، على الرغم من وجود الأماكن المخصصة لحلها! وكان قد أثير الجدل نفسه فى إيطاليا بعد أن علت الأصوات المنادية بمقاطعة معرض تورينو للكتاب (8 12 مايو المقبل)، إذ تم أيضا اختيار الأدب الإسرائيلى كضيف شرف للمعرض. وقد كتب الأديب المغربى الشهير طاهر بن جلون فى مدونته: " عن نفسى، أنا أرفض خلط الأمور. وأنا أقرأ حاليا الرواية الأخيرة للكاتب عاموس أوز "حياة وموت فى أربع قوافى"، فى الوقت الذى وضعت فيه جانبا رواية أمير جوتفروند "الأشخاص الذين لا غنى عنهم لا يموتون أبدا". فإذا كنت قد فهمت جيدا منطق هؤلاء الذين أطلقوا حملة المقاطعة، سيكون على بالتالى أن ألقي هذين الكتابين في سلة المهملات، بل سيكون على أن أحرقهما. لماذا؟ لأن كاتبيهما إسرائيليان. وسيتحتم فى الوقت نفسه على القراء الإسرائيليين إلقاء أعمالى المترجمة إلى العبرية فى سلة المهملات ومقاطعتها. وتستكمل هذه اللعبة الصغيرة بمنع أعمال الشاعر الفلسطينى محمود درويش من المكتبات ودور النشر الإسرائيلية. وفى تلك اللحظة، ستصبح هذه الحرب حربا ضد الثقافة، "أياً كان مصدرها".