لم يشهد التاريخ حرباً حضارية كتلك التى تدور رحاها فى أفغانستان، إن الحرب فى أفغانستان هى حربٌ على الفكرة الإسلامية المتمثلة فى قيام دولة للإسلام، أيا كان شكل هذه الدولة وممارساتها السياسية والعقائدية، فالحرب ليست على النقاب وعدم تعليم المرأة وغيرها، فقد صرح وزير الخارجية الإيطالى، فى لقائه على شاشة الجزيرة والذى قتلت طالبان 6 من جنود دولته فى الأيام الأخيرة، "إن الحرب التى نخوضها فى أفغانستان هى حرب حضارية، فأفكار طالبان هى أفكار من الماضى" هذا هو التبرير الذى تقدمه أمريكا ومعها حلف الناتو فى شن هذه الحرب الشرسة على أفغانستان. لقد كان التكتل الغربى فى هذه الحرب عجيباً ويكاد يكون حدوثه أمرا نادرا تاريخياً! أن تجتمع كل هذه الدول على حرب واحدة، إنها بحق حرب حضارية من الدرجة الأولى. ها هى كل المؤشرات تدل على أن طالبان هى سيدة موقف وهى شبه المنتصرة، والأمريكان وحلف الناتو مع صباح كل يوم يدفنون قتلاهم وفى كل مرة يختلف العدد بين الزيادة والنقصان. ورغم ذلك لم نسمع كلمة الانسحاب مثلما سمعناها فى العراق والصومال من قبل. حتى إن لندن بالأمس أعلنت أنها على استعداد لزيادة عدد جنودها لو طلب منها ذلك، ومكريستال يعلن أن الهزيمة قادمة لو طلبه رفض من قبل الإدارة الأمريكية بزيادة عدد القوات، من 10 آلاف إلى 40 ألف جندى حسب اختلاف المصادر، حتى إيطاليا الذى فقدت عددا من جنودها وكندا وغيرها من بلاد الغرب لا تفكر فى الانسحاب. إن التفكير فى مجرد انتصار طالبان فى هذه الحرب مرفوض من قبل الساسة الغربيين، إنهم يعتبرون الهزيمة هى ليست هزيمة عسكرية فقط، بل هزيمة للرجل الغربى ومشروعه الفكرى المتمثل فى تطبيق ونشر المذهب الرأسمالى، من حيث الاقتصاد (اقتصاد السوق) ومن حيث نظام الحكم (الديمقراطية)، وبناء على هزيمة قوات الناتو سوف ينذر بسقوط الحلف أولاً وبانتصار الإسلام السياسى ثانياً. وسوف تصبح أفغانستان بحق (مقبرة الإمبراطوريات) وكما حدث من قبل مع الاتحاد السوفيتى ومن قبلها بريطانيا سوف يحدث مع أمريكا وحلفائها. هذه بعض تداعيات الهزيمة، والتى أصابت الغرب وقادته بهزة عنيفة تجدها فى التصريحات الأخيرة لكل القادة الغربيين وعلى مستوى كل العواصم من بون إلى لندن إلى روماوواشنطن. هزيمة كل هذه الجيوش الكبرى معناه انهيار النظام الدولى برمته، وصعود حركات أخرى على نهج طالبان فى عديد من دول العالم الإسلامى، وقد تصل أو تقترب من الوصول إلى الحكم، وإن لم تصل إلى الحكم فقد تهيمن بأفكارها على الأنظمة الحاكمة فى العالم الإسلامى مما يمهد لقيام حكومات إسلامية فى المستقبل، تستطيع بعد ذلك من إيجاد نوع من التوحيد بينهما يتمثل فى دولة الخلافة الإسلامية، والتى ينتظرها العالم الإسلامى ويتخوف منها الغرب، وهى الباعث الحقيقى وراء الهجمة الاستعمارية على العالم الإسلامى فى مطلع القرن العشرين، وامتدادا للسيطرة الغربية فى القرن الحادى والعشرين على حكومات العالم الإسلامى، خوفاً من عودة الخلافة مرة أخرى. هذه هى احتمالات نهاية الحرب العسكرية الدائرة فى أفغانستان. ورغم ذلك فداخل الولاياتالمتحدة تياران رئيسيان حول الإستراتيجية المثلى لتعامل الإدارة الأمريكية مع الحرب الأمريكية فى أفغانستان. يدعو التيار الأول، والذى أضحى أكثر رواجًا فى واشنطن، لسحب القوات الأمريكية من هذا البلد وترك إدارة شئونه لأهله، مستندين إلى الخبرة التاريخية فى أنه عبر التاريخ لم تتمكن قوة من السيطرة على هذا البلد. ويرون أنَّ على واشنطن المساعدة فى التوصل إلى تسوية سياسية تضم المعتدلين من حركة طالبان، تضمن عدم استخدام الأراضى الأفغانية لشن هجمات إرهابية ضد حلفاء الولاياتالمتحدة. ولكن الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، حسب هذا التيار، لا يعنى عدم السعى الأمريكى لملاحقة تنظيم القاعدة، فى حين يدعو التيار الثانى لضرورة وجود القوات الأمريكية فى أفغانستان؛ لترابط الحرب الأمريكية فى أفغانستان وتشابكها بعديدٍ من القضايا المحورية والمهمة بالنسبة لواشنطن كالحرب على الإرهاب والصراع على الطاقة فى آسيا الوسطى والملف النووى الإيرانى ومواجهة المحور الصينى - الروسى، ولذا يدعون إلى زيادة القوات الأمريكية والدولية فى أفغانستان للسيطرة عليها وتخليصها من تنظيم القاعدة وحركة طالبان. إن احتلال أفغانستان واستباحة أرضها واستعمار موانيها ومطاراتها وتحويلها لقواعد أطلسية ليس له أساس شرعى أو قانونى، غير حق القوة وشريعة القوى تستعبد الضعيف، ومن الغريب أن الرئيس أوباما المسكون بعقدة العرق والاستعباد لا ينتبه إلى أن ما يجرى فى أفغانستان طرف من أطراف هذه القضية بل ربما أبشع لأن الضحايا يموتون هنا تحت القصف الجوى والأرضى. أما العالم الإسلامى، فهو موجود ويراقب الشعوب وسيكون له حساب صعب مع المشروع الاستعمارى، صحيح أن النظام الرسمى الموجود متواطئ مع المشروع الاستعمارى، ولكن كذلك هناك صحوة ويقظة على امتداد العالم الإسلامى تطلب الخلاص والانعتاق من السيطرة الاستعمارية، كما أن المشهد الكائن يجعل الأعمى مبصراً ويستطيع قراءة تداعيات الأحداث ومسلسل العدوان وما فيه من استكبار وطغيان، سيُهزم الجمع الأطلسى / الأوروبى فى أفغانستان كما هزم فى العراق حتى ولو كان الثمن باهظاً وكبيراً وستؤدى هذه الولادة الصعبة إلى حركة وعى وصحوة سيكون لها أثر فيما بعد .. والله أعلم.