كنتُ أجلس فى قهوة "نيو أمبريال" الملاصقة لفندق سيسل العريق مع حلمى مظهر و"على فلة"، لم أكن سعيدا فقد تضافرت المشاكل والهموم، كما يقول المتنبى: "المصائب لا تأتى فرادى". زميلنا الرابع الدكتور محمد بسيونى لم يأت للآن. دار الحديث الثقيل فى كل الأشياء. تحدث على عن حلقات الأستاذ محمد حسنين هيكل التى تذاع فى قناة الجزيرة، وقال حلمى كلاما لا أذكره الآن. لقد سافر حلمى إلى القاهرة منذ أيام وأحضر معه "شيكا" لى عن قصة منشورة بمجلة الثقافة الجديدة ،وشيكات له ول"على". وتقابلنا فى البنك المركزى. الشجن يلاحقنى، خطواتى ثقيلة وبطيئة.كان الاتفاق أن نجلس فى القهوة ونقابل الدكتور محمد بسيونى. قبل أن يأتى الساقى بالطلبات قلت لهما عن المقالة التى نقلتها عن "النت" والتى تحذر من شرب المياه الغازية، وإنها تضر بالجسم أكثر من تدخين السجائر، لكن "عليا" طلب سفن أب لأن اللقمة واقفة فى زوره. صديقنا الدكتور محمد بسيونى رجل طيب حاصل على الدكتوراه فى شاعر ومسرحى كبير، لكنه لم يجد فى آخر أيامه إلا أن يكتب الأغانى التى لا يهتم بها أحد من الموسيقيين أو المغنيين. تحدثنا عن الدكتور بشىء من الشفقة. ذكر حلمى أنه ألف أغنية عن حج بيت الله تذاع فى إذاعة الكويت،لكنه لم يسمعها ولا يعرف من الذى يغنيها أو الذى لحنها، كل ما يعرفه أن إذاعة الكويت دفعت له ثمنها منذ أكثر من عشرين عاما. قلت له: - قل هذا للدكتور محمد بسيونى عندما يأتى. جاء الدكتور محمد مبتسما – كعادته – وقابلنا بالقبلات والتحيات . هو يتابع الجرائد والمجلات والكتب التى تصدر كل يوم ،وُيبّلغ أصدقائه بما ُنشر لهم من مقالات أو قصص أو قصائد ، رغم أنه يندر أن ينشر شيئا. تحدث على عن قانون الصحافة الجديد وقال: إن رجلا وراء إصدار هذا القانون ليحمى به نفسه؛فالصحافة تنشر كثيرا عن ثروته التى تتزايد وتتضخم. لم أكن مرتاحا للجلسة لأن مشاكلى تطاردنى فى أى مكان أذهب إليه .حكيت لهم عما رأيته فى سوق الجمعة. حيث فرش بائع شاب جريدة الأخبار التى صدرت فى اليوم التالى لموت جمال عبد الناصر، وجريدة الأهرام فى اليوم التالى لموت السادات، قلت لمن معى وقتها: موت عبد الناصر والسادات معا . كانت الجريدتان محاطتين بأدوات قديمة: مسامير وعدد صغيرة مصدية والبائع الشاب يضحك، يتحدث عن حاله وحال البلد، قال: "الدولة صيعتنا، أخرجتنا من أعمالنا، ولم يتبق لنا سوى هذه الأشياء القديمة لنبيعها". قال الدكتور محمد: أريدكم أن تكتبوا عن جمال عبد الناصر. أعرف شعوره نحو عبد الناصر، فلم أعلق، لا أحب أن أخوض فى هذا الحديث معه ومع حلمى فحديثهما عن عبد الناصر يشعرنى بالضيق والاختناق. قال الدكتور محمد: لو حاتشّكروا فيه ما تكتبوش. قال على فلة للدكتور محمد: لماذا تكرهه هكذا؟ قال: سأحكى لكم واحكموا. حكاية أعرفها جيدا حكاها لى كثيرا، فشعرت بالضيق وبالرغبة فى أنه أنصرف واتركهم ، فأنا أتذكر عبد الناصر كثيرا فى أزمتى هذه، تذكرت زيارتى لنقابة التجاريين وشاب خريج كلية التجارة يسألنى بعد أن سدد قيمة الاشتراك مضطرا، عن مزايا الاشتراك فى النقابة، فقلت: يكفى أن تكون منتميا لنقابة. فجاء شابان صغيران، قال أحدهما: إننا مؤهلات متوسطة ونتمنى أن نشترك فى النقابة، لكنها تشترط شيئين: أولاً: خطاب من صاحب العمل يفيد بأننا نعمل عنده، وهو لا يريد أن يعطينا ما يفيد ذلك. ثانياً: أن نكون مشتركين فى التأمينات الاجتماعية، والتأمينات تريد أيضا موافقة جهة العمل. قال الآخر: نحن على استعداد أن نشترك فى التأمينات وندفع حصتنا وحصة صاحب العمل، لكنه لا يريد أن يعطينا ما يفيد ذلك. قلت وقتها "الله يرحمك يا عبد الناصر"، فى أيامه كان صبى الحلاق لابد أن يكون مشتركا فى التأمينات .الآن مصانع كبيرة تدار وكل العاملين فيها غير مشتركين فى التأمينات ، والدولة تعرف هذا وتعرف مدى خطورة ذلك ، ولا تهتم. تذكرت الحاج بيومى الذى كان ينقل منتجات الشركة، وينقل الدشت الوارد إلينا من الشركات ،جاء إلى شركتنا بقفطان وفوقه جاكيت كالح قديم ،وعمل وسيطا بين الشركة وبين أصحاب سيارات النقل .ثم اغتنى وأصبح عنده أسطول من السيارات الكبيرة جدا.عمل عنده شاب خريج تجارة، كان ينتظر السيارات، ويشرف على تحميلها، ويأخذ الشيكات من الحسابات. قابله الحاج بيومى يومها بسيارته خارج مزلقان السكة الحديد أمام بوابة الشركة ، وأصدر إليه تعليماته، فأسرع الشاب لينجز ما أمره به ، لكن القطار الذاهب إلى رشيد – والذى يمر أمام الشركة – دهسه. فهرب بيومى بسيارته .وادعى أنه لم يكن يعمل عنده .وضاع الشاب دون شىء. فليس لدى أسرته ما يفيد بأنه كان يعمل عند الحاج بيومى الذى كان يحرص على أداء الصلوات فى المكتب أمامنا. وحكى الدكتور محمد حكايته مع عبد الناصر. كان مدرس ابتدائى - دبلوم معلمين – ثلاث سنوات بعد الإعدادية – تعين على الدرجة الثامنة، وظل أكثر من عامين ليحصل على أول علاوة، فلابد أن يمر عليه عامان كاملان وقت استحقاق العلاوة . ثم صدر قانون جديد يعين المؤهل المتوسط على التاسعة بدلا من الثامنة. قلت له: وما شأن عبد الناصر بما تقول؟! فقال: لأ، مال أمى؟!. لم أجبه فآلاف الخريجين الآن لا يعملون، وبعضهم يقبل أعمالا لا تتناسب مع مؤهلهم ، فخريج الجامعة يقبل أن يتعين بالإعدادية ويرتدى البذلة الصفراء بدلة الخفراء ويمضى على ورقة يقر فيها بأنه لن يطالب بتسوية حالته بمؤهله العالى. أصحاب مؤهلات عليا ومتوسطة يعملون بالفاعل. المصنع الذى تعينت فيه عام 1968 بيع وتحول إلى أرض سكنية، كان أول مصنع ورق فى الشرق الأوسط أسسه خواجة يونانى قريبا جدا من كوبرى محرم بك .وشركة البيبسى فى مصطفى كامل تحولت إلى أرض سكنية، ومصنع بدوى أيضا وغيرها من مصانع. أيام عبد الناصر كنا آمنين فى عملنا الذى يُعين فى مصنع يطمئن على مستقبله، فيخطب ويتزوج، فهو يعرف أنه سيظل فى هذا المصنع إلى أن يموت أو يحال إلى المعاش. الآن كل الأعمال على كف عفريت. عادت أيام ما قبل الثورة، وعادت جملة "وفروا كذا عامل وموظف"، تذكرت النكتة المشهورة بأن رجال الأسرة كلهم عاطلون: الجد محال بعد الستين والأب محال معاش مبكر والحفيد بعد أن تخرج من الكلية أو المدرسة لم يجد عملا. قال على فلة: لقد نجح عبد الناصر فى أن يقنع تشرشل – رئيس وزراء بريطانيا فى ذلك الوقت – أنه الشخص المناسب للتفاوض على الجلاء من مصر. قال الدكتور محمد: مش معقول تقوم ثورة يوليو إلا إذا كانت أمريكاوبريطانيا موافقة على ذلك. قال على : أرجوكم ما تفهمونيش غلط ، لو جه عبد الناصر دلوقتى علشان يحكم؛ حا قتله، والسادات كمان ، لأن هذا ليس وقتهما . قال حلمى ساخرا: عبد الناصر جاء برغبة من إسرائيل علشان يعمل لهم النكسة. أردت أن أصيح فيه، لكننى صمت، فأنا غير راغب فى المشاركة فى الحديث. استأذنت وسرت. ذهبتُ إلى فرع هيئة الكتاب بشارع سعد زغلول لابحث عن كتب أريد شراءها ، وضعتُ مجلتين فيهما مقالات عن كتبى، تركتهما بجانب الباب، واشتريتُ ما أريد. وبعد أن وصلت البيت متعبا اكتشفت أننى نسيت المجلتين. ولم أذهب ثانية للسؤال عنهما.