إنها حالة حداد، فلنجهز العيون للدموع والقلوب للوجع، والأكف للضراعة، والصدور للخفقان اضطراباً، والعقول للاعتماد على النفس، واليوم لمستقبل بلا آباء، يمر الموت مرة، فيخطف من الأحبة ما يشاء، ويتركنا باشتياقنا للقريبين وقد راحوا بعيداً، يدركوننا ولا ندركهم، يروننا ولا نراهم، يلوحون لنا ولا نلمح أكفهم، يبتسمون لنا فلا يضاء لنا طريق ولا تبهجنا ابتسامة، لا أعرف هل أنعى بهذه السطور «أبى» الذى توفى الجمعة قبل الماضى؟ أم «كاتبى» الذى توفى الجمعة الماضى؟ أم أنعى حفنة من الأدباء والكتاب العظام الذى رحلوا مؤخراً؟ أم أنعى قيما سامقة غابت وتوارت وساد فى غيابها ما هو أدنى؟ أم أنعى وطنا أراه يترنح وهو يفتقد وصلة الحق والخير والجمال؟ أم أنعى كل هذا فى شخص محمود عوض؟ أم أنعى محمود عوض وفيه كل هذا؟. فى كل صيف من كل عام يأتى الموت حاملا مفاجآته المريرة، واضعاً فى قائمته كثيرين ممن عشقناهم وعشنا معهم فأعطوا لحياتنا طعماً ولونا وشكلاً وقيمة، كانت آخر مقالاتى ب«اليوم السابع» عن صلاح عبدالصبور الذى رحل فى أغسطس قبل ثمانية وعشرين عاما، وقبلها كانت مقالتى التى كتبتها فى الذكرى السنوية الأولى لمحمود درويش، وتتسع قائمة موتى أغسطس لتشمل عبدالوهاب مطاوع، الذى رحل فى العام 2004 والقيادى العمالى إبراهيم شكرى الملقب بالشهيد الحى، وأيضا قبل ثلاث سنوات رحل أديب نوبل نجيب محفوظ فى الثلاثين من أغسطس، وقبله رحل يوسف إدريس ولويس عوض، وفى الماضى البعيد رحل أيضاً فى أغسطس كل من سعد زغلول، ومصطفى النحاس، وفؤاد سراج الدين، وفى صيف العام الماضى رحل كل من يوسف شاهين ورءوف عباس، وألبير قصيرى، وسامى خشبة، ونالت الصحافة المصرية أكثر طعناتها إيلاما برحيل كل من رجاء النقاش وكامل زهيرى وعبدالوهاب المسيرى ومحمود أمين العالم وصلاح الدين حافظ، وأبى صيف هذا العام أن يرحل دون أن أودع أبى، وبعده بأيام محمود عوض. لا أتخيل شكل الصفحة الأخيرة من «اليوم السابع» بدون «محمود عوض»، والآن أتذكر أيام ما قبل صدور العدد الأول فى الرابع عشر من أكتوبر من العام المنصرم، وقتها كنا نجرى الاستعدادات النهائية للخروج إلى النور، ولا أنسى شكل «خالد صلاح» وهو يزف لى مبتهجاً خبر الاتفاق مع محمود عوض على الكتابة معنا، ووقتها كانت «اليوم السابع» غير معروفة لقاعدة كبيرة من الناس، فكنت حينما يسألنى أحد عن جريدتى الوليدة أقول متندراً: يرأس تحريرها خالد صلاح وأنا ومحمود عوض نكتب فيها، وحينما صدر العدد الأول من «اليوم السابع» كانت الصفحة الأخيرة تتزين بقلمه وصورته، صارت كل مقالة يكتبها بالنسبة لى درساً من دروس الصحافة، وفى كل مرة أحسده على سعة أفقه وعمق رؤيته واتساع ثقافته وشمولية متابعته، ما من صغيرة ولا كبيرة فى أحوال السياسة والثقافة والاقتصاد فى العالم العربى إلا وأحصاها وربطها بأسلوب صحفى شائق ورشيق.