سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
فى ثالث أيام العام الدراسى.. نجلا شهيد "كرداسة" يعودان لمدرستيهما بصحبة وزير التعليم ووالدتهما.. والإذاعة المدرسية فى فاصل حزين: "لن تشعرا باليتم أبدًا"
ككل الأعوام وكل الصباحات، استعد "أحمد" و"زياد" لعامهما الدراسى الجديد.. اشترى والدهما حقائب المدرسة وزيها الأزرق، وطبع قبلته على جبينهما صباح ال19 من سبتمبر، قبل أن يضبط ساعته على توقيت الصفر، لاقتحام كرداسة وتلقى الشهادة. اللواء الشهيد نبيل فراج، الذى لم يبق منه سوى سيرة البطولة ومسك الشهادة، ترك لنا من عبقه طفلين يخطوان أيامهما الأولى فى الابتدائى ببهجة هذه المرحلة وسعادتها وأحلامها. "زياد" الكبير فى الصف الثانى الابتدائى، ودعه والده صباح "كرداسة" المشئوم، وعبث بخصلات شعره الناعم ليترك له ربتة أخيرة على رأس مليئة بذكرى الأب العطرة، أما "أحمد" الصغير، فكان يستعد للانتقال من رياض الأطفال للصف الأول الابتدائى، فيلحق بأخيه متلعثما فى الثاء والزاى فيناديه "ذياد". "زياد" و"أحمد" حين رأيا والدهما يرتعش فى سكرات موته الأخيرة، أمام شاشات التلفزيون، انزويا واكتئبا وخيم عليهما حزن يليق بطفلين لم يألفا اليتم من قبل، ولم يعرفا ما يعنيه موت ينتقى ضحاياه بعناية، فلا يأخذ إلا الأبرار والصالحين. وبنفس مشاعر الفقد التى انتابت الطفلين، تحرك الوزير الدكتور محمود أبو النصر، بعد أن أدى واجب العزاء لزوجة الشهيد، وعرض اصطحابهما للمدرسة فى أول يوم لهما بعد توقف طقوس الجنائز القاسية بسوادها وعذابها. الوزير، الذى يترحم دائما على طفل له توفى صغيراً، استدعى قلبه كأب مكلوم، ووضع يمناه فى يد "زياد" ويسراه فى يد "أحمد"، ودخل بهما المدرسة مع سيدة أنهكتها الدموع، ولم يبق منها سوى ملابس الحداد وبذرتين زرعتهما وشريكها قبل أن يمزقه الرصاص وتفوح روائح المسك من دمه الكريم. أما المدرسة، فارتدت حلتها الزرقاء، واتسعت عن آخرها لاستقبال الولدين، فى صباح غائم ليس ككل الصباحات البعيدة التى ودع فيها الشهيد نجليه على بابها. دقت الإذاعة المدرسة أناشيدها المعهودة، وذيلتها بالقرآن الكريم ففيه شفاء ونور ورحمة، ووقف وزير التعليم فى منتصف الفناء إلى جانبه زوجة الشهيد، تبكى، وقال مذيع الطابور الصباحى "إلى أحمد وزياد.. لن تشعرا باليتم أبدا"، لتنزل الكلمة كالصاعقة على رؤوس الطلاب والمعلمين كسهم هرب من قوسه. وحين صعد الولدان إلى فصليهما لاحقتهما عدسات الصحافة، وضجيج التليفزيون، فلم يلتفتا، وجلس "أحمد" على مقعده الأول بالفصل يسأل المُدرسة عن كتبه الجديدة كزملائه، بعد أن نسيت والدته أن تحضرها ككل عام. وبرغم صغره أيضا إلا أن "زياد" الكبير رفض أن يعطى الصحفيين حبرا للورق، وحين سألوه: لماذا لم تأت للمدرسة الأيام الماضية؟ نظر للأرض وقال "مش عاوز أتكلم عن الحاجة دى"، فصمت الكلام تماما كما صمت والده للأبد وتركهما يصارعان حياة تضع الفقد قانونها الأول، ولا يعنيها المفقود.