كان صلاح جاهين عمره أربع سنوات حين جاء أحد أصدقاء والده إلى البيت، وكان اسمه الدكتور على العنانى وفوجئ بدخول الطفل الصغير عليه، وصعوده على الكرسى ليرحب به قائلاً: «كانى ومانى.. ودكان الزلبانى.. ودكتور على العنانى». كان بديهيا أن يسجل الضيف انبهاره بهذا الطفل المعجزة، بل ويتوقع له مستقبلا مبهرا، ويكتب له فى 26 من إبريل 1934م، إهداء على ظهر صورته يقول فيه: إلى ولدى العزيز الطفل الصغير والخطيب الكبير محمد صلاح الدين حلمى، أهدى صورتى هذه تذكاراً لما توسمته فيه وهو فى أول أدوار النطق من الذكاء والاستعداد إلى الخطابة بدرجة فوق العادة.. وأرجو يا ولدى العزيز أن تطول حياتك وأن ينمو فيك استعدادك، وأن تكون نافعا لبلادك والإنسانية ومن شابه أباه فما ظلم. أمه حاولت أيضا أن تغرس بداخله حب المذاكرة، فكانت كلما شرحت له درسا ووجدته يستجيب للشرح ويستوعب سريعا، كانت تقوم بشرح درس آخر له، ورغم أن هذه الطريقة نمَّت عقله وجعلته لا يشبه أقرانه، فإنها جعلته يكره المذاكرة التى يروى حكايته معها ومع أمه قائلاً: استقالت أمى من العمل بالتدريس لتتمكن من الانتقال مع والدى إلى مختلف المدن التى كان يعمل بها ولتضع جهدها الذى كانت تبذله مع ثلاثين طالبا معى فقط، وهذا جعلنى أجيد العمليات الحسابية والقراءة والكتابة قبل أن يتجاوز عمرى خمس سنوات، مما أدى إلى «حرق مخى» وكانت أمى تمنعنى من الخروج من البيت لكنى كنت أخالف تعليماتها وأخرج، وأذكر أننى فى إحدى المرات صعدت إلى قمة جبل أسيوط وعمرى 12 عاما، واكتشفت أن وراءه صحراء شاسعة، ورأيت يوما مومياء فرعونية فى أحد الكهوف وعدت سالما بعد هذه المغامرة التى كان يمكن أن تكون فيها نهايتى، لأنى كنت ابن وكيل النيابة الذى يريد «خُط الصعيد» الانتقام منه الذى كان معروفا أنه مُختبئ فى الجبل!. لكن تلك المغامرات كانت لا تتكرر كثيرا، لذلك كان يقضى أغلب وقته فى القراءة، خاصة أنه عندما التحق بالروضة فى مدرسة «الكلية الأمريكية» بمحافظة أسيوط، لم تكن موهبته فى الرسم قد اكتشفت - أو بمعنى أدق انفجرت- بعد أن ظلت حبيسة عقله ووجدانه حتى بلغ عمره 14 عاما، كان قبلها «أخيب تلميذ فى الرسم» - على حد وصف شقيقته - وكانت درجاته فى الرسم لا تزيد على 4 درجات من عشر؛ لأنه كان يرسم من خياله ولا يلتزم بتعليمات مدرس الرسم، مما جعل أحد المدرسين يعطى له صفراً بينما يمنحه آخر الدرجة النهائية، وظلت أزمته مع الرسم قائمة حتى جاء مدرس جديد للرسم يدعى أستاذ «أرناؤوطى» ذلك المعلم الذى نحى المقرر جانبا ولم يفرض على التلاميذ رسم موضوعات الطبيعة الصامتة «من شجر وبيوت» التى كان يكرهها جاهين، واستوعب هذا الأستاذ عقلية الأطفال، وأخذ يحكى لهم بعض القصص الخيالية وقصص الأدب العالمى، التى كان يهدف منها كسر جمود الرسومات التقليدية التى اعتادها التلاميذ، وهنا وجد التلميذ محمد صلاح متنفسا لقدراته الفنية الحرة التى لا تعترف بالمحفوظات والقوالب النمطية، لذلك عندما طلب المدرس رسم «غابة تهب عليها الرياح» كانت تلك الرياح بمثابة مولد الكهرباء الذى أضاء الطريق أمام موهبة جاهين التى هبت بعد سنوات رياحها على فن الكاريكاتير فغيرته، بل وغيرت مفاهيم والده الذى كان يحلم أن يتخرج ابنه فى كلية الحقوق ليصبح خليفة له، ولكن الأب الذى وصل إلى قمة الهرم القضائى، لم يتصور أن ابنه سيصبح جامعة - وليس كلية فقط - بمفرده يتخرج فيها المبدعون على مر العصور.