هو من اغتوى بالمحال،عشق الصعب، وطوع المستحيل، افترش خياله بساطًا نسجه من خيوط أفكاره وألوان أحاسيسه، وحلق به فوق المدن والقرى، دخل كل بيت وكل قلب، أبت نفسه التكلف، فخلق دنياه بسيطة، رقيقة، تشع منها أنوار الطفولة، وتملأ أرجائها ملامح البسطاء. إنه صلاح جاهين الغائب الحاضر دائمًا، والذي حلت ذكرى وفاته منذ أيام قليلة، وبرغم شهرة أعماله إلا إننا قررنا أن نخوض الرحلة لنتعرف أكثر وعن قرب على هرم مصر الرابع كما قيل عنه. لحظة ميلاد جاهين ولد صلاح جاهين بحي شبرا في القاهرة في بيت جده الصحفي أحمد حلمي يوم25 ديسمبر عام1930، وتنقل مع والده في محافظات مصر كلها لأن والده المستشار بهجت حلمي كان يعمل وكيلا للنيابة واسم صلاح جاهين الحقيقي هو محمد صلاح بهجت حلمي جاهين. وكانت ولادته متعثرة تعرضت أثنائها والدته للخطر، فوُلد شديد الزرقة دون صرخة حتى ظن المحيطون أن الطفل قد ولد ميتاً، ولكن جاءت صرخة الطفل منبهة بولادة طفل ليس ككل الأطفال. ورث جاهين هو أية القراءة عن والدته - السيدة أمينة حسن - التى كانت تروى له القصص العالمية والأمثال الشعبية بأسلوب سلس لطالما عشقه، فعملت على غرس كل ما تعلمته من دراستها فى طفلها النبيه الذى تعلم القراءة فى سن الثالثة. صلاح جاهين الطفل عُرف عن صلاح جاهين فى طفولته الهدوء - رغم كونه الإبن الأكبر والأخ الأكبر ل3 شقيقات هن بهيجة، وجدان، وسامية، وتصغره الأخيرتين بفارق زمنى كبير، لذا توثقت علاقته بشقيقته السيدة بهيجة. كان شديد الحنان والتسامح مع أخته، حتى أنه كان يتطوع للدفاع عنها عند عقابها إذا ما أخطأت فى حقه، وكان يتمتع منذ صغره بموهبة "الحكى" فكان يقرأ كل ما تقع عليه عيناه ثم يعيد روايته لشقيقاته بأسلوب شيق ومميز يحرص فيه على إيقاع الكلمات. ورغم هذا الظهور المبكر لموهبة الشعر، إلا أن موهبة الرسم قد تأخرت فى الظهور حتى سن الرابعة عشر تقريباً، فلم تزد درجاته فى الرسم طوال طفولته عن 4 على10. مرحلة الشباب وراء سخرية صلاح جاهين فلسفة عميقة وفكر جرئ وروح متمردة, لقد بدأت مرحلة الشباب في حياة جاهين بحالة من التمرد وتكسير القيود المسيطرة عليه بعد إصرار والده لإلحاقه بكلية الحقوق ليكمل مسيرة والده في السلك القضائي. وبعد رفض صلاح في البداية لكنه أنصاع لإرادة والده، وكانت نتيجة لذلك فشله 3 سنوات متتالية فكان رفضه هذه المرة قاطعاً لمحاولات والديه إقناعه بالعدول عن قراره بترك دراسته وهو ما أسفر عن مشادة عنيفة بينه وبين والده غادر"جاهين" المنزل على إثرها دون إطلاع أحداً على مكانه. وتوجه لبيت الفنانين بوكالة الغورى ثم سافر لعمه بغزة، وقضى فترة هناك عاد بعدها إلى القاهرة حيث قرأ إعلاناً عن وظيفة مصمم مجلات بالمملكة العربية السعودية، فتقدم لها ثم سافر دون أن يخبر أحداً، ولم يعلم والديه إلا بعد سفره بالفعل. ولكنه عاد مرة أخرى لمصر بعد أن تلقى خطاباً من والده يحثه فيه على العودة، ورغم التحاق صلاح جاهين كلية الفنون الجميلة بعد ذلك إلا انه لم يكمل الدراسة بها أيضاً. حياته العملية بدأ صلاح جاهين حياته العملية فى جريدة بنت النيل وفى منتصف الخمسينيات بدأت شهرته كرسام كاريكاتير فى مجلة روزاليوسف، ثم فى مجلة صباح الخير التى شارك فى تأسيسها عام 1957. وكانت رسوم صلاح جاهين الكاريكاتورية مؤثرة للغاية، لدرجة أنها تسببت أكثر من مرة فى أزمات سياسية، كما كان صلاح جاهين على وشك الأعتقال أكثر من مرة، وكانت من أشهر شخصياته الكاريكاتورية " قيس وليلى، الفهامة, درش، قهوة النشاط". وخلال تلك الفترة لم تتوقف أعمال صلاح جاهين الشعرية، فأصدر ديوانه الأول "كلمة سلام" عام 1955، ثم ديوانه الثانى "موال عشان القنال" عام 1957 وفى نفس العام كتب "اليلة الكبيرة" أحد أروع إبداعاته والتى لحنها له سيد مكاوى. واستطاع جاهين ببساطته وتلقائيته التعبير عن كل ما يشغل البسطاء بأسلوب يسهل فهمهه واستيعابه، وهو ما جعله فارساً يحلق برسومه وكلماته ويطوف بها بين مختلف طبقات الشعب المصرى، وبرغم الشهرة الواسعة التى حظى بها صلاح جاهين ورغم إجادته للحديث عن مختلف الموضوعات وكما يقول عنه المقربون منه" إنه لم يُجِد الحديث عن نفسه؛ فأوكل المهمة لأشعاره لتعبر عن مكنونات نفسه". فترة النضج في حياة جاهين لقد مثلت الفترة الممتدة من 1959 حتى 1967 فترة النضج الشعرى عند صلاح جاهين والتى بلغت قمتها بصدور ديوانه الأشهر "الرباعيات" عام 1963، وخلال تلك الفترة كتب صلاح جاهين أروع أعماله الوطنية التى تغنى بها العديد من المطربين ومنهم عبد الحليم حافظ مثل "صورة"، "بالأحضان" وغيرها من الأعمال الوطنية التى بقت راسخة فى ذاكرة الشعب المصرى. وقدم العديد من المسرحيات مثل "القاهرة فى ألف عام"، وكتب الأغانى والأشعار للعديد من المسرحيات مثل "إيزيس"، و"الحرافيش" وقام بالترجمة لبعض المسرحيات الأجنبية مثل "الإنسان الطيب"، بالإضافة الأغانى والأشعار للعديد من الأعمال الإذاعية مثل أغانى مسلسل "رصاصة فى القلب". ونظراً لأعماله المتميزة للأطفال - مثل مسرحيات "الفيل النونو الغلباوى"، "الشاطر حسن"، "صحصح لما ينجح" اختارته وزارة الثقافة - عام 1962- ليكون مسئولاً عن كل ما يتصل بتوجيه الطفل وثقافته. وانضم صلاح جاهين فى مارس 1964 لأسرة جريدة الأهرام ليكمل مسيرته فيها؛ كما نال صلاح جاهين وسام الفنون فى عيد العلم عام 1965. جاهين وانهيار الحلم الناصري جاهين لم يكن محباً لعبد الناصر فقط، بل كان مبهوراً به يراه قادراً على تحقيق مالم يستطع أى زعيم وطنى آخر تحقيقه، وعن حبه لعبد الناصر يقول: "أنا وقعت تحت مغناطيسية الكاريزما الموجودة فى شخصية عبد الناصر، ولكنى تعلمت أن انظر إليه بموضوعية"، لذا لم تكن فى كلماته أي ظلال لإفتعال سياسى أو مداهنه للنظام، بل كانت مشاعر عفوية صادقة. لكن جاءت هزيمة 1967 لتكون بمثابة الضربة القاسمة لصلاح جاهين، فأصيب بعدها بالاكتئاب الذى لازمه حتى وفاته، وخلال هذه الفترة توقف عن كتابة الأغانى الوطنية؛ حيث اعتبر نفسه مشاركاً فى الهزيمة بأغانيه وأشعاره شديدة التفاؤل والحماس للثورة لإنه شعر بالخديعة وبانهيار الحلم الناصري الذي ترسخ في وجدانه, وبالنسبة للمثقف فإن الخديعة في هذه الحالة تكون ثنائية فطالما أن صلاح جاهين كان مخدوعا فإنه بلا قصد منه اشترك في خديعة الكثيرين بشعره ورسوماته لانه قام ببناء الحلم الكبير الذي ثبت انه اكبر من إمكاناتنا في ذلك الوقت. ولكنه استعاد توازنه وكتب من وحى حرب الاستنزاف "الدرس انتهى" بعد الهجوم الإسرائيلى على مدرسة بحر البقر. جاهين وإنطلاقة جديدة لم تستطع أشد المصاعب أن توقفه ولم يستسلم لذا قرر أن يطرق أبواباً جديدة، فلم يكن المسرح والكاريكاتير والدواوين أن تسع موهبته لذا دخل المجال السينمائي ككاتب سيناريو ومنتج وممثل بأدوار صغيرة لكنها علامات في السينما المصرية مثل "جميلة أبوحريد" – "اللص والكلاب". وخاض مجال الإنتاج السينمائي وأنتج مجموعة أفلام منها "المتوحشة"، و"خالى بالك من زوزو"، و"أميرة حبى أنا" والذي كتب السيناريو والحوار لهما، وكتب للتليفزيون فوازير "الخاطبة" و"عروستى". صلاح جاهين وسعاد حسني كان يمثل لها الأب الروحي والمستشار الفني والصديق المخلص، ولقد كانت أعمالها التي كتبها لها جاهين من أهم محطات نجاحها في مشوارها الفني وهو الذي دفعها للتمثيل في تجربتها التليفزيونية في مسلسل(هو وهي) الذي كتب له الأغاني و السيناريو وحوار. جاهين الزوج كان رأيه إن"الزواج هو الاستقرار" لذلك تزوج صلاح جاهين مرتين، باحثاً عن الاستقرار والحب؛ فتزوج للمرة الأولى من "سوسن محمد زكى" الرسامة بمؤسسة الهلال عام 1955 وأنجب منها بهاء وأمينة جاهين. ثم تزوج من الفنانة "منى قطان" عام 1967 وأنجب منها أصغر أبنائه سامية. جاهين الأب كان صلاح جاهين يهتم كثيراً بأبنائه فكان دائماً بجوارهم عندما يكون لأى منهم مشكلة، فكان أولاده أصدقائه ، فحرص على اللهو واللعب معهم وتنبه لموهبة بهاء المبكرة فى الشعر وسعد بها سعادة غامرة، ولكنه لم ينس دور الموجه فطالب ابنه بضرورة المحافظة على الأوزان عندما عرض عليه بهاء أول مجموعة أشعار كتبها. قيل عنه الكاتب والمفكرأحمد بهجت "كان صلاح جاهين شمساً تشع بالفرح، رغم أن باطنه كان ليلاً من الأحزان العميقة، وكان يدارى أحزانه، ويخفيها عن الناس، ويصنع منها ابتسامة ساخرة، ويظهر على الناس بوجهه الضاحك كل يوم". الفنان سيد مكاوى "كان هرماً من الفن، وذلك لأن صلاح جاهين شخصية لا يمكن أن تتكرر فى الشعر، أو الرسم، أو الأغنية". الشاعر فاروق جويدة لقد عاش صلاح جاهين للفن ،و لمصر فى كل محنها، وانتصاراتها، وأمانيها، فكان صوتاً مصرياً، وطنياً، صانعاً، مليئاً بكل ما حمل نهر النيل من صدق وعطاء". وفاته لقد كان صلاح جاهين هادئاً حنوناً صادقاً محباً لكل من حوله، عشق فنه فعشقه الناس، و واستطاع بقلب عليل تثقله الأحزان أن يزرع فى كل واحداً منا بذرة الأمل والتفاؤل, وعندما رحل عن عالمنا في 21 إبريل عام 1986 عن عمر يناهز الخامسة والخمسين نتيجة لأزمة صحية بقى فنه دعوة دائمة للتأمل.