أوباما لا يرى نفسه فى مهمة رومانسية أو إلهية لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط، بل هو يعيد تعريف المصالح الأمريكية فى المنطقة، يرى نفسه مدافعا عنها ومنفذا لها. هذه بالضبط هى الخلاصة الصحيحة، وكتبها ألون بينكاس مدير المركز الأمريكى الإسرائيلى فى تل أبيب، ولكن أوباما يريد أن يحقق ذلك بفلسفة ومنهج جديد، يجنب الولاياتالمتحدة الخسائر ويحقق لها أقصى ما يمكن من مكاسب. على هذه الأرضية ليس مطلوبا من أوباما أو غيره أن يتبنى ما نريده بالضبط، وليس مطلوبا منه أو من غيره أن يأتى لنا بكل المكاسب دون أن نفعل شيئا، ولكن المطلوب هو أن نوسع المشتركات بيننا وبين هذه الإدارة الجديدة التى تفتح صفحة جديدة، جوهر منهجها هو الشراكة، وليس غطرسة القوة، تحقيق أقصى قدر من التفاهم دون فرض أجندة محددة على المنطقة كلها. هذا لا يعنى أن خطاب أوباما الذى ألقاه أول أمس فى جامعة القاهرة، لا يستحق الخلاف حوله، بل على العكس، فهناك ما يمكن انتقاده، وخاصة إذا أضفت المرارات والخسائر وسنوات وسنوات من عدم الثقة، وخطايا لا أول لها ولا آخر من جانب الإدارات الأمريكية المتوالية تجاه العالم كله بشكل عام، وتجاه العالم الإسلامى بشكل خاص، وبالنسبة للشرق الأوسط كانت الخطايا أكثر فداحة، بل وإجراما، أدت إلى كل هذا التوحش الإسرائيلى وأدت إلى الكثير والكثير من المصائب. لكن المشكلة هى أن معظم الذين اعترضوا على رسالة أوباما للعالم الإسلامى انتقدوا تعبيرا هنا أو هناك، أى حكمتهم الجزئيات. والمشكلة الثانية هى أنهم انطلقوا من فرضية غريبة، وهى ضرورة أن يقول أوباما بالضبط ما يريدونه هم تحديدا دونا عن العالمين، فهم يريدون كل شىء أو لا شىء، وهذا غير منطقى بالمرة. المشكلة الثالثة هى أنهم ينتظرون ما سوف يفعله بعد الخطاب، دون أن يسألوا أنفسهم: ماذا يجب علينا أن نفعل؟ كيف يمكننا أن نحصل على ما نريد؟ كيف نكون أقوياء حتى يمكننا أن نشارك فى المرحلة القادمة ونحصل على أقصى ما يمكن من مكاسب؟ الحقيقة أن أوباما لم يكن مشغولا فى خطابه بأن يضع الحلول للكوارث المعقدة فى كل أنحاء العالم، ولكن يمكن القول إنه أراد أن يوضح للعالم فلسفته، منهجه فى التعاطى مع الأزمات، بل ومع المشاكل داخل الولاياتالمتحدة.. ومن هنا ليس المعيار لفظ هنا أو هناك، ولكن على الرسائل الأساسية فى الخطاب. فليس منطقيا، فى رأيى، غضب بعض المسيحيين، حسبما جاء على موقع اليوم السابع، حيث انتقدوا استخدام أوباما لتعبير أقلية فى وصفه للمسيحيين المصريين. أو احتجاج الأستاذ توحيد البنهاوى الأمين العام المساعد للحزب الناصرى على تقسيم أوباما لمصر بين مسيحيين ومسلمين. الحقيقة أن النظرة الجزئية لم تقع فيها قوى سياسية مصرية فقط، ولكن وقع فيها كثيرون فى العالم، فهناك احتجاجات فى فرنسا بسبب موقف الرجل من الحجاب، والذى اعتبره فى خطابه حرية شخصية لا ترتب أى مساس بالحقوق. كما انتقدت صحف أسبانية تمثل اليمين ويسار الوسط، ربط أوباما بين تسامح الأندلس ومحاكم التفتيش واعتبرته مثيرا للشك، وأشارت إلى أن الحديث عن التسامح الإسلامى خلال "احتلال الأندلس خرافة". وهو ما فعله بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى، حيث أعرب عن خيبة أمله حيال ما وصفه بموقف أوباما اللين بشأن طموحات إيران النووية، كما انتقد جمهوريون بارزون، كما جاء على موقع اليوم السابع، مساواته بين الفصائل الفلسطينية بما فيها حماس، والتى يعتبرونها منظمة إرهابية، وبين الحكومة الإسرائيلية. بل إن كاتبا كبيرا مثل روبرت فيسك، وقع فى ذات الفخ، فقد انتقد أوباما لأنه فى رأيه طالب المسلمين بألا يعيشوا فى الماضى، لكنه استثنى الإسرائيليين من هذا المطلب. ليس هذا فقط ولكن حتى منظمة العفو الدولية انتقدت تجاهله للتجاوزات المستمرة فى مجال حقوق الإنسان فى مصر، حيث ألقى خطابه وفى دول عربية أخرى. واستمرارا لذات المنهج كان موقف جماعة الإخوان، فقد اعتبر دكتور عصام العريان رئيس المكتب السياسى الخطاب مبادئا عامة مستمدة من الدين الإسلامى، ولكنه كمن "يبيع المياه فى حارة السقايين". وحزب الله اعتبر خطابه "إنشائيا" لا يتضمن "أى تغيير حقيقى" فى الموقف الأمريكى من الشرق الأوسط. ووصفه الدكتور عبد الحليم قنديل، المنسق العام لحركة كفاية، بأنه "مندوب مبيعات شاطر" فى الترويج للسياسة الأمريكية، لا يقدم أى شىء جديد ومختلف عن بوش. وقال محمد نزال نائب رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، إن اللغة التى تحدث تختلف عن سلفه الرئيس جورج بوش، إلا أنه طالب بترجمة هذه الأقوال إلى أفعال. أى أن هناك قطاعا فى عالمنا العربى ينتظر أن يحول الرجل كلامه إلى أفعال، وهذا يعنى أنه لن يتقدم أحد للأمام، وسننتظر أن يفعل، ولا نخرج من خانة المفعول به أبدا، ولا نقرأ الرسائل الأساسية للإدارة الأمريكية الجديدة، وهذا معناه أن نظل فى خانة المفعول به وليس الشريك الفاعل.. فعلى سبيل المثال، أليس مطلوبا من حماس إنهاء الاقتتال والانقسام الفلسطينى بتقديم ولو قليل من التنازلات حتى يمكن الدخول فى تفاوض جاد من أجل حل الدولتين؟ أظن ذلك وأظن أيضا أن المساواة بين بوش وأوباما ظالمة، فالأخير على أرض الواقع تقدم خطوات، منها أنه قرر إغلاق معتقل جوانتانامو ومنها إصراره على وقف الاستيطان الإسرائيلى، ومنها رفضه لاستخدام القوة المسلحة ضد النظام الإيرانى، وضخ استثمارات فى أفغانستان وباكستان بدلا من الجنود، ورغبته الحقيقية فى إنهاء أسطورة العداء مع الإسلام التى تعيشت منها إدارة بوش، والتى كانت تستند إلى خلفية دينية متطرفة مثلها مثل بن لادن. ما اقصده أن هناك رسائل إيجابية فى خطاب أوباما، أهمها على الإطلاق أن الإدارة الجديدة قررت نزع فتيل الاحتقان فى مناطق كثيرة فى العالم، وانتقال هذه الإدارة من غطرسة القوة إلى محاولة تأسيس وتوسيع مصالح مشتركة مع كل القوى فى العالم، ومن خلالها يمكن الوصول إلى توازن مصالح هنا وهناك. هذا لا يعنى على الإطلاق أن نقع فى فخ أن أوباما سوف يتبنى أجندة أحد، فالرجل كان واضحا فى أنه رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية ومسئوليته الأولى هى حماية مواطنيها ومصالحهم، أى أنه وكما قال الكاتب الإسرائيلى ألون بينكاس الذى ذكرته فى البداية لا يرى نفسه فى مهمة رومانسية أو إلهية لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط، بل هو يعيد تعريف المصالح الأمريكية فى المنطقة، يرى نفسه مدافعا عنها ومنفذ لها، ولكن بمنهج مختلف، منهج يستند على أكبر قدر من الشراكة.. وأظن أننا مطالبون مثل أوباما بأن نعيد تعريف مصالحنا وندافع عنها.. وإذا لم نفعل سوف نهدر فرصة كبرى قد لا تأتى أبدا.