اتفق الفقهاء على أن الجرائم الموجبة للحدود خمسة »الزِّنَى وَالْقَذْفِ، وَالسُّكْرِ، وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ «، كما تقول الموسوعة الفقهية الكويتية، فذهب الأحناف إلى أنها ستة، وذلك بإضافة حد الشرب للخمر، مجرد الشرب ولو دون السكر. ويرى الأحناف أن حد الحرابة داخل تحت مفهوم السرقة بالمعنى الأعم، كما يقول الزحيلى فى الفقه الإسلامى وأدلته، ويرى المالكية أن الحدود سبعة، فيضيفون إلى المتفق عليه الردة والبغى، فى حين يعتبر بعض الشافعية القصاص أيضًا من الحدود، حيث قالوا: الْحُدُودُ ثَمَانِيَةٌ وَعَدُّوهُ بَيْنَهَا. وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَتْل تَارِكِ الصَّلاَةِ عَمْدًا مِنَ الْحُدُودِ. وقد استنبطت كل الحدود من نصوص واضحة وصريحة وصحيحة، ففى حد السرقة يقول تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهَِّ وَاللهَُّ عَزِيٌز حَكِيم »المائدة(«38 ، فالأمر فى الآية واضح وصريح كما يقول الكثير من متحدثى هذه الأيام بأنه لابد من قطع يد السارق، بينما يتغافل أدعياء الوجوب المطلق هؤلاء الآية التالية لآية الاستشهاد لديهم، حيث يقول تعالى (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهََّ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهََّ غَفُورٌ رَحِيمٌ»المائدة(«39 . فقد استوقفت الآية الثانية المفسرين والفقهاء طويلا بشكل أكبر من آية الحد نفسها، فما معنى أن من تاب وأصلح يتوب الله عليه؟ ويفضى السؤال إلى سؤال: هل للتوبة أثر فى الحدود؟ لقد انقسم الفقهاء فى ذلك إلى فريقين، الأول رأى أنه لا أثر للتوبة فى وجوب إقامة الحد، والثانى رأى أن أثر التوبة كبير فى إسقاط الحد، وكان من أكبر المؤيدين للرأى الثانى القطبان السلفيان ابن تيمية، وابن القيم، ففى »إعلام الموقعين « لابن القيم يقول : »والله تعالى جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم، ورفع العقوبة عن التائب شرعا وقدرا، فليس فى شرع الله ولا قدره عقوبة تائب البتة، وفى الصحيحين من حديث أنس قال كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال يا رسول الله إنى أصبت حدا فأقمه على قال ولم يسأله عنه فحضرت الصلاة فصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل فأعاد قوله قال أليس قد صليت معنا قال نعم قال فإن الله عز و جل قد غفر لك ذنبك، فهذا لما جاء تائبا بنفسه من غير أن يطلب غفر الله له ولم يقم عليه الحد الذى اعترف به وهو أحد القولين فى المسألة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد وهو الصواب، فإن قيل فماعز جاء تائبا والغامدية جاءت تائبة وأقام عليهما الحد قيل لا ريب أنهما جاءا تائبين ولا ريب أن الحد أقيم عليهما وبهما احتج أصحاب القول الآخر، وسألت شيخنا – يعنى ابن تيمية - عن ذلك فأجاب بما مضمونه بأن الحد مطهر وأن التوبة مطهرة، وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة وأبيا إلا أن يطهرا بالحد فأجابهما النبى صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال فى حق ماعز هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه. ولو تعين الحد بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذى اعترف به: اذهب فقد غفر الله لك، وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به، ولذلك رددهما النبى»ص «مرارا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما وهذا المسلك وسط بين مسلك من يقول لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة، وبين مسلك من يقول لا أثر للتوبة فى إسقاطه البتة، وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط «. ويضيف ابن القيم شاهدا بحديث آخر مشهور ننقله منه» :ومن أخرى بتلقينه الزانى لعلك قبلت. حتى وقت تنفيذ الحدود كان النبى صلى الله عليه وسلم يحاول التخفيف على الناس بقدر الطاقة،» أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد زنى فسأله فاعترف فأمر به فجرد فإذا هو حمش الخلق – ضعيف - فقعد فقال ما يبقى الضرب من هذا شيئا فدعا بأثكول فيه مائة شمراخ فضربه ضربة واحدة«، فالعفو عن الناس ومساعدة الحاكم والمجتمع لهم على التوبة خير من بتر أعضائهم، أو ضرب جلودهم بلا شك. إن الأمر على مستوى النصوص الشرعية ليس بهذا الوجوب المطلق الذى يوهم به الإسلاميون والمتشددون العامة، ليقهروهم ويمتلكوهم ويسوقوهم بظاهر هذه النصوص إلى مصالحهم ومنافعهم ومآربهم السياسية منها، أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فقد رأينا فى زماننا الرجل يسوق مئات الآلاف من بنى وطننا بأوهام ما أنزل الله بها من سلطان، وبوعد وعيد بتطبيق الشريعة، ولا أدرى ما الذى سيضيفه إلى حياتنا، اللهم إلا المزايدات التى ستتلو الواحدة منها الأخرى حتى يمتلك ناصية المجتمع، لا مجموعة من ضعيفى العقول والنفوس رضخت له تحت ضغط أوهامه وخزعبلاته. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحد ابن سلول وغيره بحد القذف فى حادثة الإفك رغم أنه – ابن سلول - القائد الأكبر للحادثة، ففى مسند أحمد بن حنبل، وقال عروة أيضا لم يسم من أهل الإفك إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش فى ناس آخرين لا وصحابته من بعده عن حدود رفعت إليهم بعد شهادة الشهود فقد أخرج أحمد والنسائى وأبوداود والرواية له وصححها الألبانى عَنِ ابْنِ عُمَرَ، »أَنَّ امْرَأَةً مَخْزُومِيَّةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ فَتَجْحَدُهُ»لا تعيده «، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، فَقُطِعَتْ يَدُهَا «، وفى رواية أخرى لنفس القصة عن صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِى عُبَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: »هَلْ مِنَ امْرَأَةٍ تَائِبَةٍ إِلَى اللهَِّ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ؟ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - وَتِلْكَ شَاهِدَةٌ، فَلَمْ تَقُمْ، وَلَمْ تَتَكَلَّمْ «، لقد استتاب الرسول المرأة المشهود عليها بالسرقة بعد رفع أمرها له كحاكم ثلاثا ليعفو عنها فلم تتب فكان الحد، فإذا قلنا إننا فى هذه الأيام سنسجن الناس بدلا من العقوبات البدنية من قطع الأعضاء أو جلد البشرات، وسنسعى فى هذا السجن سعيا حقيقيا وعلميا لتأهيل المذنبين نفسيا واجتماعيا وسلوكيا وإصلاحهم، والذى هو عين التوبة فما المانع؟ إن العفو وتعافى الحدود كان عين ما يريده النبى، يروى الإمام أحمد فى مسنده عن أبى ماجد قال: أتى رجل بن مسعود بابن أخ له فقال إن هذا ابن أخى وقد شرب فقال عبدالله لقد علمت أول حد كان فى الإسلام امرأة سرقت فقطعت يدها فتغير لذلك وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا شديدا ثم قال: »وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم « وقال» تعافوا الحدود فيما بينكم «رواه أبوداود، والنسائى، والحاكم، وعبد الرزاق فى مصنفه. وكان النبى يعرض عن المتهمين بالأيام رافضا تنفيذ الحدود عليهم رغم اعترافهم كما فى روايتى ماعز والغامدية، بل ويلقن المتهم ما يخرجه من العقوبة، فتعددت الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق اعترف اعترافا لم توجد معه متاع، فقال ما أخالك سرقت قال بلى قال ما أخالك سرقت قال بلى قال فاذهبوا به فاقطعوا يده قال فقطعوا يده ثم جاءوا به فقال استغفر الله وتب إليه قال أستغفر الله وأتوب إليه قال: اللهم تب عليه اللهم تب عليه، وهناك روايات تأمل المطابقة بين الأمر والنهى والثواب والعقاب وارتباط أحدهما بالآخر علم فقه هذا الباب، وإذا كان الله لا يعذب تائبا فهكذا الحدود لا تقام على تائب، وقد نص الله على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التى وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم، وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحرابة بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى، وقد روينا فى سنن النسائى أن امرأة وقع عليها فى سواد الصبح وهى تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذى كانت استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر فجاءوا به يقودونه إليها فقال أنا الذى أغثتك وقد ذهب الآخر قال فأتوا به نبى الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه الذى وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركنى هؤلاء فأخذونى فقالت كذب، هو الذى وقع على قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم انطلقوا به فارجموه، فقام رجل من الناس فقال لا ترجموه وارجمونى فأنا الذى فعلت بها الفعل، فاعترف فاجتمع ثلاثة عند رسول الله» ص «الذى وقع عليها والذى أغاثها والمرأة، فقال أما أنت فقد غفر لك، وقال للذى أغاثها قولا حسنا، فقال عمر ارجم الذى اعترف بالزنى فأبى رسول الله »ص «فقال لأنه قد تاب إلى الله . وقد وضع الإمام البيهقى فى سننه حديث المستغيثة هذا تحت عنوان »بَابُ مَنْ قَالَ: يَسْقُطُ كُلُّ حَقٍّ لِلهَِّ تَعَالَى بِالتَّوْبَةِ قِيَاسًا عَلَى آيَةِ الْمُحَارَبَةِ .« إن ابن القيم وابن تيمية ومن رأوا بسقوط الحد عن المذنب بالتوبة وفقا للروايات الكثيرة الواردة فى ذلك يقصرون ذلك على التوبة قبل الرفع للحاكم، فإذا رفع أو ثبت الأمر بالبينة أو الشهود فقد وجب الحد. لكن، وجد العديد من الروايات لحدود ثبتت بغير الاعتراف، ولم يجبنا عنها السادة الأئمة، فوجدت روايات حديثة وآثار عفا فيها النبى» ص «علم لى بهم إلا أنهم عصبة كما قال الله عز وجل، وإن كبر ذلك كان يقال عند عبد الله بن أبى بن سلول، وكذا عفا عن المرتد فيما روى أبوداود فى سننه عن ابن عباس، قال، كان عبد الله بن سعد بن أبى سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح فاستجار له عثمان بن عفان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل فى حد الردة لمن عده حد استجارة؟ وكذا أتى عمر رضى الله عنه بامرأة قد زنت فذكر الحديث ثم قال عمر رضى الله عنه إنما جعل الله أربعة شهداء سترا يستركم دون فواحشكم، فلا يتطلعن ستر الله أحد إلا وإن الله لو شاء لجعله واحدا صادقا أو كاذبا، قال الشافعى: ونحن نحب لمن أصاب الحد أن يستتر وأن يتقى الله ولا يعود لمعصية الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده، رواه البيهقى فى سننه. ويؤكد تاريخ الحدود بعد النبى هذا الفهم، فقد أسقط الفاروق عمر بن الخطاب حد السرقة فى عام الرمادة، ولا يدعى أحد بأنه كان وقت شدة، فحياة النبى صلى الله عليه وسلم كانت سلسلة من الشدائد، ولم يسقط حدا بشكل كامل كما فعل عمر، وأيضا لم يعطل أبوبكر الصديق الحد حين واجه عاما كاملا من القحط والجدب والمجاعة.. فلماذا التفريق بين المواقف؟ كذلك زاد عمر فى حد الخمر كما شاء. روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فجلده نحو الأربعين، وفعله أبوبكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبدالرحمن بن عوف أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر رضى الله عنهما، وقال حجاج ثمانين وأمر به عمر، وعن الحسن أن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: ما أحد يموت فى حد من الحدود فأجد فى نفسى منه شيئا إلا الذى يموت فى حد الخمر فإنه شىء أحدثناه بعد النبى صلى الله عليه وسلم، فعلامَ كل هذا الضجيج والصخب حول الحدود؟ ابن القيم : جعل الله الحدود عقوبة لأرباب الجرائم ورفع العقوبة عن التائب شرعاً وقدراً فليس فى شرع الله ولا قدره عقوبة تائب البتة.